يجب أن نظل مؤمنين بمفهوم الدولة. والعملية الإصلاحية حالة ضرورة لاستمرار مفهوم الدولة.
هنالك حديث هامس يتسلل مؤخرا بين ضجيج الأحداث وزحمة المشاعر يحاول العبث بمفهوم الدولة ومجمل العملية الإصلاحية، حديث فحواه يتعلق بفكرة تأجيل الانتخابات القادمة أو بالأحرى تعطيلها والسبب طبعا متوفر وجاهز: أحداث غزة!
لكن من وجهة نظر أكثر عمقا ومنزهة عن الشبهات المصلحية فإن ما يحدث في غزة تحديدا وكل ما يمكن أن يحدث بعد غزة يجب أن يكون محفزا لاستكمال العملية الإصلاحية وترسيخ مفهوم الدولة واسترجاع كامل ألقها المؤسساتي في الأردن.
هذا الهمس الذي يدور في صالونات عمان يطلقه المستفيدون "دوما" من الوضع الراهن، ومبرراتهم التي يسوقونها تخفي رغبتهم بالسبب الحقيقي لدعواهم، والمتعلق بإبقاء مصالحهم كما هي، المصالح المكتسبة التي يمكن أن تفقد شرعية وجودها في حال استمرار عملية الإصلاح السياسي وإجراء الانتخابات والبدء بعملية تغيير سياسي وإداري شاملة في الدولة الأردنية.
هناك فعلا من لا يريد "دولة المؤسسات والقانون" في الأردن، وهؤلاء فريقان: فريق يتقوقع على مصالحه التي لا يحافظ عليها إلا الوضع الراهن وتعظيم فكرة غياب المؤسسات وإضعاف القانون، وفريق مقابل يرى في الأردن "محطة انتظار" لا يستحق الوجود كدولة، وغالبيتهم مدفوعون بخيبة تاريخية محمولة على الماضي.
كلا الفريقين لا يمكن أن يجتمعا في غرفة واحدة، لكنهما يتقاطعان في فكرة تعطيل مفهوم الدولة في الأردن، ولكل أسبابه التي تتعاكس مع الفريق الآخر.
المفارقة الأكثر إدهاشا، أن الفريقين "المتضادين" على كل تقاطعاتهما يلتقيان على توافق مع فكرة اليمين الإسرائيلي الفاشي الحاكم حاليا بإنهاء الأردن كليا وتذويبه لصالح مفهوم ترحيل الأزمة الإسرائيلية العميقة إلى شرق النهر.
فريق "الوضع الراهن" لا يرى في كل الإصلاح القادم إلا عملية هدم لمكتسباته الشخصية من نفوذ يحقق ثروة، وتدوير مناصب عبثي لم يعد مجديا في عالم جديد لا يفهم لغته الخشبية.
وفريق أوهام المقاومة الثورية المستحضرة من خيباته التاريخية لا يزال يحمل صخرته السيزيفية صاعدا نحو الجبل كل مرة لينحدر مع كل خطوة نحو السفح، غير مدرك أن المواجهة – أي مواجهة- تأتي بتراكم الوعي بالدولة الصحية والسليمة والمعافاة.
أعرف من الفريقين من أعرف من أردنيين، وأجادلهم بضرورة استمرار العملية الإصلاحية فيرد فريق "الوضع الراهن" بتبريرات تحشد كل مسوغات التخويف من التغيير في بنية الدولة خوفا من شبح الوطن البديل، وتشعر أن هذا التبرير حالة تسويقية لمصدر رزقهم ببيع الإنشائيات.
ويرد فريق "الخيبة الكامنة في النفوس" بدفوعات ثورية تشبه أغاني مارسيل خليفة، ترى في كل ما يفعله الأردن غير كاف، فأتساءل لو اضطررنا – لا سمح الله.. نعم لا سمح الله - أن نخوض حربا حقيقية بكامل دمويتها، فأين سيكون هؤلاء؟
نحن بحاجة إلى التغيير أكثر من أي وقت مضى، تغيير حقيقي يعيد للدولة مؤسساتها لتكون مؤهلة لأي مواجهات، والمواجهات لن تتوقف لأن هذا هو حال العالم، وهذه هي جغرافيتنا السياسية المحتومة.
الغد