استشهد دوريٌ في غزة، وأنقذ غزي من تحت الركام هرّة، ربما لأنها بسبعة أرواح، قصفت إسرائيل أرغفة العجين وهي على الصاج قبل خبزها على نار الحطب في غرب غزة "الآمن"، يصرخ الرجال: في حدا هان؟ سمعوا أنيناً سرعان ما اختفى. ينتشل الشباب طفلة تقطع جسدها إلى أشلاء، لفوا الأشلاء بقطعة من قماش، سارع صبي نحو الجثمان المقطع حاملاً قدم الطفل. سأل صحفي أحد الناجين: ماذا تقول؟ قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقط لا غير.
فقد الغزي الأمل في كل شئ، فقد شهيته للحياة، رغبته في البقاء، ويدعو الغاصب القاتل المحتل، أن يقتله دفعة واحدة، لماذا تقتل إسرائيل المئات من أهل غزة كل يوم، لماذا تقتل الأطفال والنساء وكبار السن بهذا الشكل البطئ، ولماذا تتركهم يموتون من المرض، والجوع، والعطش، لماذا تتركهم ليفقد الأطباء القدرة على تمييز الحي من الميت من الجرحى والمعفرين بركام قصف الطائرات، ولماذا تعذب قلوب فاقدي الحيلة على مدى أشهر، ما دام هدفها إبادة كل أهل قطاع غزة؟ هل تخشى شيئاً لو فعلت؟
أنا لا أصدق أننا وصلنا إلى هذا الحد من الهوان، والاستكانة، والاستسلام لآلة الحرب العمياء، وأنا لا أصدق أن الدول العربية والإسلامية ما زالت مكتفية بما أصدرته من قرارات في الرياض، وغزة تحتاج إلى مواقف حازمة حاسمة، وإلى وقفة أكثر من حاجتها إلى مجرد قرارات، وأنا أيضاً أقول: حسبي الله ونعم الوكيل؛ فقط لا غير.
فقط لا غير، غزة تدمرت فوق رؤوس أهلها، وأهل غزة يصرخون: أين أنتم يا عرب؟ أين أنتم يا مسلمون؟ ألسنا عرباً مثلكم؟ أليس دمنا دمكم؟ ألسنا إخوتكم، وامتدادكم؟ يقولون: اكتوينا يا ناس، استوينا يا عرب، تعبنا من الموت. قصفت إسرائيل حفاراً كنا نستخدمه لاستخراج الشهداء والجرحى من تحت الأنقاض. أنقذونا، لم يعد لدينا أكفاناً، جاء الشتاء وليس لدينا ما يكفي ليقينا برد الشتاء، لا مأوى، ولا سقف، ولا مأمن، يبكون، يصرخون، يناشدون، يشتمون، يناجون الله، يحمدونه على كل حال، يجمعمون أشلاء ضحاياهم بأيديهم، يحفرون قبوراً جماعية، ويحتسبون، ولا مجيب، يحتسبون، وماذا بعد؟ يقول أحدهم: فقط لا غير.
وفي الضفة الغربية استشهد - حتى كتابة هذه المقالة - منذ بدء العدوان على غزة 254 شهيداً، واعتقل الاحتلال في نفس الفترة 3480 شاباً وشابة، وهدم منازل كان آخرها منزل في حي الصوانة في جبل الزيتون، يسكن فيه الشيخ عكرمة صبري، قالت إسرائيل أن المبنى "غير مرخص"، وفي صور باهر هدم الاحتلال الطابق الثالث من مبنى "غير مرخص"، قالت أن طابقه الأرضي بني في العهد الأردني، وأن أساساته لا تحتمل أكثر من طابق، وقتل شاب على يد مستوطن قرب سلفيت، هذا كله في 24 ساعة ماضية، فقط لا غير.
الخطاب العربي دون المستوى المطلوب، والمطلوب مواقف عربية في مستوى الجريمة، ومستوى هذا العدد من القتلى الذين تقصفهم طائرات الاحتلال بدم بارد، ولكني قبل ذلك وبعد، أريد أن أسأل: متى سينتفض هذا العالم على هذا الجور، وهذا القهر، وهذه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني التي حولت غزة إلى مدينة أشباح؟ عندما يموت أهل غزة عن بكرة أبيه؟ أم عندما يصبح على أرض العريش، أسأل فقط، وفقط لا غير.
وأما المقاومة في غزة، فأسطورة سيسجلها التاريخ بالتبر والحبر وورق البردى، وهي - بعد الله - أمل أهل غزة وشعب فلسطين في النصر والتحرير، أذلت المحتل، وغيرت المعادلات، وأدوات النضال، وأشكاله، وغيرت اللعبة، وأنهت مظلومية الظالم، وهزمت وستهزم الجيش الذي لا يقهر، وستبقى غزة، ويخرج الاحتلال مأزوماً يجر أذيال الخيبة، فقط لا غير.