الثقافة الغائرة والمقاومة
محمد العامري
02-12-2023 04:59 PM
يشكل مفهوم المقاومة ركيزة أساسية في الثقافة السياسية العربية بين المثقفين، والذين أسهموا عبر منجزاتهم الكثيرة في ترسيخ مفهوم المقاومة كضرورة ثقافية تنسرب في أذهان الأجيال، بل أصبحت تشكل خطابا مزعجا لدى العدو أكثر من البندقية.
وتندرج ثقافة المقاومة بكل مكوناتها من "غناء ورواية وأشعار وموسيقا ومسرح وسينما واعلام" في سياق المنهج المستمر في الكشف عن عورة العدو وتكريس التراث بكل مكوناته بكونه يتعرض لاحتلال ممنهج من قبل المحتل في محاولة منه لخلق صورة جديدة مزيفة له تنتظم في تثبيت أقدامه في المنطقة المحتلة وخير مثال على ذلك فلسطين المحتلة منذ أكثر من سبعين عاما، فالثقافة التي ترسخ مفاهيم المقاومة هي الصورة الأكثر تأثيرا على الناس بكونها وثيقة ثقافية كاشفة تشكل في محتواها وعيا متجذرا وغير قابل للمحو، حيث يقول المسرحي الألماني "بريشت": الفن مطرقة يمكن بها تشكيل الحقيقة".
ونشهد عبر عقود محاولات الكيان الصهيوني في تزوير التراث الفلسطيني من خلال الميديا والمعارض التي أقيمت في دول العالم مقابل الحصار الجائر على الخطاب الثقافي الفلسطيني وملاحقة القصيدة مثل قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش "عابرون في كلام عابر" ولوحة شموط التي تم تهريبها في حصار بيروت وكذلك لوحة "جمل المحامل " للفنان سليمان منصور التي أصبحت أيقونة فلسطينية بامتياز.
ففي أثناء الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، وعلى الأخص تجربة المقاومة الفرنسية التي أصبحت أساسية في شيوع مصطلح المقاومة وانتشاره في أواسط العالم الذي يدافع عن حريته ووطنه، دون إغفال بعض التجارب هنا وهناك فيما يخص المقاومة عبر الثقافة والتي يعود بعضها الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بعد الحرب العالمية الثانية وبدايات تفكيك الهيمنة الاستعمارية الغربية، مقابل ظهور حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا والتي كان لها الدور الأكبر في تفيك المنظومة الاستعمارية الغربية، ومن أهم المثقفين الذين انشغلوا في تطوير مفاهيم المقاومة الثقافية هو المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد من خلال صياغة مفهوم المثقف وصورته ومهمته ودوره في مواجهة السلطات المحتلة ومقاومة أشكال الهيمنة الثقافية الغربية.
وتكمن أهمية ادوارد سعيد حسب اعتقادي في عمق تأثيره بكونه واحدا من اهم عشرة مفكرين في العالم، إضافة إلى طروحاته التي تتميز بطروحات فلسفية ورؤى ثقافية عميقة تتمحور في سياق مقاوِم للهيمنة والسيطرة ورفض القوالب الجاهزة، ومن اهم كتبه التي عالجت صورة المثقف كتابه "صورة المثقف" ويشير في كتابه إلى مهام المثقف بقوله: "إن إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحدّ كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري".
فالكتابة تساهم في جميع الأحايين في ترسيخ مفاهيم معرفية غائرة عن توجهات العدو الاستعمارية وتشكل فعلا مقاوما بطريقة مباشرة وغير مباشرة، بالاستناد إلى الغاية التي تنهض بها الكتابة في علاقتها بالإنسان، ولم يكن مطلوبا من الكتابة الفكرة المباشرة بقدر ما تطرحه من مدايات بعيدة تصب في نهاياتها بالفعل التوعوي المقاوِم،
فالتفكير في مسألة الكتابة الأدبية وغيرها بوصفها فعل مقاومة، وكصورة أساسية من صور البحث عن الحرية والكرامة، وأذكر هنا إلى ما ذهب إليه رولان بارت بقوله: "الأدب... هو دومًا واقعي بصفة قاطعة. إنه حقيقة الواقع وإشعاعه".
فالكاتب الذي يرزح وطنه تحت وطأة الاحتلال هو بمثابة سردية لتلك المعاناة، فمن الضروري أن تكتب الضحية سرديتها كجزء من الدفاع عن وجودها، ففعل الكتابة المقاوِمة تتجلى في كثير من محطات النضال، فالقلم ربما يتجاوز البندقية في تأثيره، وكذلك الانتباهات العميقة لطبيعة المنهاج المكتوب الذي يغرس في نفوس الأطفال قيما مهمة حول الوطن واهميته، بدء من معرفة أنواع الزهور والتقاليد وطبيعة طقوسه التراثية التي تشكل القيم الاجتماعية والهُوية، من خلال تحرير الذات وتمكينها من المبادرة في ما يتعلق بمصيرها، فالرّبط بين الفن بشتى أشكاله والمقاومة، له ما يبرّره بالحديث عن المقاومة بالفن خاصة عندما ننظر إلى ما قدمته فرقة العاشقين والحنونة ومارسيل خليفة وغيرها من الفرق التي ساهمت في رفع معنويات المقاومين كأغانٍ تطرح في مضمونها الفعل المقاوم.
ففكرة المقاومة مرتبطة ارتباطا عضويا بالثقافة، وبالنظر إلى الاستعمار ففي غالبه يبدأ عسكريا ومن ثم يتجه نحو الاستعمار الثقافي والفكري، من خلال نشر ثقافته ولغته وفكره الذي سمح له بالتعايش أكثر مدة زمنية والتغلغل في الأوساط مختلفة؛ لذلك نشأ "الأدب المقاوم"، وتُرجمت الكتابات والأشعار، لا سيما تلك التي تخرج من السجون وكما يقول الفيلسوف "دولوز" في إحدى محاضراته: "يمكن للمرء أن يقول إذًا إن الفن هو ما يقاوم، حتى لو لم يكن هو الشيء الوحيد الذي يقاوم". من هنا كانت العلاقة وثيقة بين فعل المقاومة وعمل الفن.
فمنذ الإعلان عن احتلال فلسطين عام 1948، أبدع الفلسطينيون سياقا مهما ووسائل مبدعة في مواجهة الاحتلال، فقد استعملوا مجموعة من الوسائل في مواجهة الاحتلال الصهيوني منها المسلح (بدأوا بالحجر إلى السكين فقطة سلاح واحدة إلى التصنيع والاكتفاء الذاتي يرافقه الإبداع)، ووسائل شعبية عبر المقاومة السلمية بما تمثله مسيرات العودة والكتابة والسينما والغناء والفن التشكيلي وغيرها.
وأشار درويش في إحدى مقابلاته إلى أن “شعر المقاومة بهذا المعنى احتلّ مكانةً كبيرة في الوجدان العربي الخارج من هزيمة 67، وبالتالي احتلّ مكانةً معنوية أعلى من مكانته الأدبية".