قد تنتظر اسرائيل حتى انتهاء الحرب، وقد لا تنتظر ان طالت ، لكي تبدأ عمليات تحقيق واسعة مع نفسها ، لتحديد المسؤوليات عن فشلها الذريع ليس فقط في التنبؤ بهجوم حماس ، ولكن أيضا عن فشلها في التصدي له عند وقوعه ، بشكل وصف بأنه اسوأ فشل في تاريخها ، ففي تلك الساعات الاولى من الهجوم المباغت ، ظهرت الاجهزة الاسرائيلية والجيش والحكومة والدولة كلها بحالة فاضحة من الارتباك والتخبط وعدم القدرة على فهم ماذا يحدث ، وماذا يجب ان تفعل ، لقد حدث اللامتوقع والدولة كلها نائمة حقا ومجازا ، انه يوم اسوأ بكثير على اسرائيل من يوم السادس من اكتوبر.
ولذلك سيكون التحقيق في ما جرى ، واسعا ودقيقا جدا، وسيكون مذلا لمستويات سياسية وعسكرية واستخباراتية متعددة ، وستكون النتائج وما يترتب عليها من إجراءات ، قاسية ومخزية ، وستنتهي الحياة الرسمية لعدد من قادة هذه المرحلة في إسرائيل ، بطريقة سيفضلون معها الانتحار سلفا ، لو كانوا من أمة اليابان.
ومن المثير ، أن نحاول التعرف على شيء من تلك الورطة الاستخباراتية التي وقعت فيها اجهزة اسرائيل ، حيث يمكن الاستناد على بعض التسريبات الاعلامية الطفيفة ، التي ستتحول مستقبلا الى فضائح استخباراتية مدوية ، ونستنتج من هذه التسريبات المتاحة ، ان استخبارات حماس ، نجحت بشكل فعال بإدارة عميل او عملاء مزدوجين في مستوياتها العليا ، كان متاحا لهم تمرير معلومات ذات قيمة ومصداقية للاستخبارات الاسرائيلية ، جعلتهم عملاء موثوقين لها ، وواحد من هؤلاء على الاقل كان بطل عملية خداع مكتملة للأجهزة الإسرائيلية ، وقدم معلومات مضللة وخادعة لمشغليه ، بنيت عليها تقديرات خاطئة ، أصابت اسرائيل بالعمى ، وبناء عليها اعتبرت ان الخطر المحتمل ليس من غزة بل من الضفة الغربية ومن لبنان وإيران ، وتركزت جهودها على اهداف اخرى ، بينما كان الخطر داهما من نقطة قريبة جدا ، فتفوقت بذلك استخبارات حماس في إدارة ما يمكن وصفه بأكبر عملية خداع استخباراتي بهذا الحجم .
ونستنتج ، ايضا ، ان استخبارات حماس اكتشفت وادارت بنجاح ولعدة سنوات ، اجهزة تنصت وتجسس اسرائيلية مزروعة في أماكن حساسة في مقراتها ، ومررت من خلالها ما ترغب بتمريره من معلومات عن نشاطاتها واجتماعاتها وخططها ، وبصورة حاذقة جدا ، وتخدم أهدافها ، ولأن المعلومات المتاحة عبر الوسائل الفنية موثوقة عادة لدى اجهزة الاستخبارات ، فقد انطلت الخدعة على الاسرائيليين ، بشكل منح حماس تفوقا استخباراتيا نادرا وغير متوقع وطويل الأمد ، وربما كان هذا هو العنصر الحرج في عملية الخداع الكبيرة التي ابتلعتها إسرائيل كطعم شهي.
ومن المعروف ، ان إسرائيل اعتمدت طويلا وتباهت كثيرا بقدراتها التجسسية الفنية ، وتفوقها التكنولوجي في هذا المجال ، حتى أن أنظمتها التجسسية التقنية عالية المستوى ، كانت سلعة غالية الثمن ومطلوبة جدا عالميا في السوق الاستخباراتي والعسكري السري والعلني.
لكن أدوات التجسس الفنية ، تظل طبعا قليلة الجدوى في متابعة الأهداف الحساسة الواعية ، ولا يمكن أن تغني عن المصادر البشرية ، ولطالما عانت اجهزة الاستخبارات من نقص المصادر البشرية ذات الصلة بالأهداف المهمة ، حيث تعجز الوسائل الفنية عن سد الاحتياجات المعلوماتية المفيدة عن حركة هذه الأهداف ونشاطاتها ، وهذا ما عانت منه الولايات المتحدة في حروب العراق ، فقد كانت تعاني من نقص العملاء البشريين ذوي الصلة بالأهداف الكبيرة ، مقابل وفرة في القدرات الفنية الفعالة في ملاحقة الأهداف السهلة ، ولذلك لم يتسنى القبض على المطلوبين العراقيين الكبار إلا بواسطة مصادر بشرية ، وفي حالة حماس بالتحديد يبدو أن المصادر الفنية تحولت الى خطر مميت على الطرف الإسرائيلي المتباهي بقوته التقنية.
ولان الفضائح بعد التحقيق ستكون اكبر من ان تتحملها اسرائيل ، فقد تلجأ للابقاء على التحقيقات ونتائجها سرية ، او تكتفي بالإعلان عن جزء منها ، لكن الإجراءات التي ستتخذ بناء على نتائج التحقيق ، ستكشف عن حجم هائل من التقصير على كل المستويات ، وستحاسب إسرائيل قادتها المخدوعين حسابا عسيرا ، فالتقصير أو (المحدال) هذه المرة كان فظيعا جدا ، وجاء الخطر من جهة صغيرة نسبيا قياسا بقوة اسرائيل ، لذلك سيكون على إسرائيل أن تتعلم درسا لم تتعلمه من قبل.