سعر النفط بين حربي أكتوبر
د. جواد العناني
30-11-2023 12:49 PM
في صباح يوم الاثنين الماضي أعلن موقع "سعر النفط" أو (OilPrice) الأميركي أن سعر النفط غربي تكساس (WTI) قد تراجع إلى 75.54 دولاراً للبرميل بنسبة (2.02%) عمّا كان عليه مساء يوم الجمعة الذي سبقه (24 نوفمبر). أما سعر مزيج برينت الخام، فقد تراجع سعره إلى 80.58 دولاراً للبرميل بنسبة 0.84% في ذلك اليوم.
وقد هبط سعر النفط الخام من مزيج برنت بمقدار يقارب 4 دولارات للبرميل خلال الخمسين يوماً الأولى من حرب إسرائيل على غزة والضفة الغربية، بينما تراجع سعر غرب تكساس بمقدار يقارب 7 دولارات خلال الفترة نفسها.
وفقاً للتصريحات الصادرة عن مسؤولين في الولايات المتحدة، فإن مخزونها النفطي ارتفع بمقدار 9 ملايين برميل تقريباً. وأكد أحد المسؤولين الأميركيين أن الدول العربية المنتجة للوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي) لن تقلّص المبيعات أو زيادة الأسعار في الوقت الحاضر كإجراء انتقامي من الدول الغربية المساندة لإسرائيل.
ولكن السؤال الذي يبقى عالقاً في الذهن هو: لماذا ارتفعت أسعار النفط عند بداية الحرب الروسية الأوكرانية ولحقتها أسعار المواد الغذائية الأساسية، خصوصاً القمح والذرة والأرز والصويا وغيرها من المنتجات الحقلية، ثم امتد الأمر ليشمل الأسعار المستقبلية للمعادن من الذهب والفضة والقصدير والحديد والنحاس؟
أما الآن، فإن الحرب في غزة لم تشهد مثل هذه الارتفاعات، هل يعود ذلك الأمر فقط إلى أن الحرب على فلسطين (القطاع والضفة الغربية) تبقى محدودة الأثر، لأن إنتاج إسرائيل وفلسطين من هذه المواد لا يكاد يشكل سوى نسبة ضئيلة من إنتاج العالم، أم أن الوسطاء وسماسرة السلع الكبار في العالم لم يريدوا للأسعار أن ترتفع حتى لا تفيد الدول المصدرة لهذه السلع؟ أو لأنها تعاطفاً مع إسرائيل لا تريد أن تكون تل أبيب في موضع اللّوم من مختلف الدول التي ستعاني من ارتفاع أسعار السلع؟
لقد رفعت الدول المنتجة للنفط الأسعار أو هدّدت بذلك مرتين: الأولى عام 1967 وبعد حرب ذلك العام التي سماها العرب "النكسة" ونتج منها احتلال أراضٍ واسعة في الدول العربية المشاركة (الأردن وسورية ومصر وقطاع غزة). ولكن التهديد لم يُنفذ بسبب قصر مدة الحرب، وفداحة الخسارة العسكرية والجغرافية، وتراجع النفوذ العربي إلى قعر منحنى الاحترام والهيبة. ولذلك، لم تحدث تلك الحرب سوى أثر محدود على ارتفاع الأسعار.
أما المرة الثانية، فقد كانت بعد حرب أكتوبر عام 1973، حين هدد الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزير بوقف إمدادات النفط بسبب إعلان الولايات المتحدة التأييد المطلق لإسرائيل. وقد فتح الرئيس ريتشارد نيكسون الجمهوري جسراً جوياً مستمراً حين استعانت به رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير صارخة: "نحن على وشك الإبادة". وقد وصل إمداد إسرائيل بالأسلحة المتطورة من صواريخ ودبابات ومضادات للدروع وقذائف جوية، جعل مخزون الولايات المتحدة يصل إلى مستوى متدن وخطير.
وقد كان أيامها رئيس هيئة الأركان المشتركة اللواء جورج براون (George S. Brown)، الذي سبق له أن كان قائداً لسلاح الجو الأميركي. وفي محاضرة له في إحدى الجامعات، صرّح الجنرال براون بأن الضغوط عليه كانت كبيرة إبان حرب العاشر من رمضان لإمداد إسرائيل بالذخائر والمعدات العسكرية، حتى وصل المخزون منها في الولايات المتحدة إلى حدّ أدنى وخطير.
وقد ذكر هذا في سياق المحاضرة بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973 بصفته كان مسؤولاً عن توفير هذه المعدات والذخائر عند مستوى يضمن جاهزية الجيش الأميركي لأي حرب طارئة. وقد سجّل أحد الطلاب من الديانة اليهودية المحاضرة. ولما شاع ذكر المحاضرة وتسجيلها تهافتت وسائل الإعلام على نشرها، ما أدى إلى الطلب من الجنرال براون الاستقالة من منصبه. وقد توفي بعدها بأربع سنوات ونصف عام 1978. علماً أن عمره كان حينها ستين عاماً فقط.
إذن، جرى استخدام سلاح النفط من قبل الدول العربية في حربين، إحداهما وقعت يوم السادس من أكتوبر، بينما بدأت حرب إسرائيل على فلسطين يوم السابع من الشهر نفسه بعد خمسين عاماً. وقد دامت حرب أكتوبر 1973 مدة تسعة عشر يوماً، أما هذه الحرب عام 2023 فما زالت مستمرة منذ 55 يوماً حتى الآن ومن ضمنها فترة الهدنة وهبط فيها سعر النفط.
ولو عدنا بالذاكرة إلى عام 1973، فقد كانت الولايات المتحدة في تلك الفترة تعاني من ركود اقتصادي، وقد اضطر الرئيس نيكسون الذي تسلّم الحكم بعد الرئيس ليندون جونسون (Lyndon B. Johnson) والذي وقعت إبان رئاسته حرب 1967. وبسبب دخول جونسون في حرب فيتنام بشكل متصاعد وكبير، وهو أمر رفضه الرئيس جون كينيدي (Jhon F. Kenndy)، فقد تراجع الاقتصاد الأميركي بسبب ارتفاع كلفة الحرب، وتراجع الميزان التجاري الأميركي إلى حد أدى إلى زيادة اليورودولارات في الأسواق العالمية.
وقد كانت الولايات المتحدة، منذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944، قد تعهدت لكل من يحمل الدولار أن تبدله بما يساوي الدولار من ذهب. ولذلك، تراجع المخزون الأميركي من الذهب حتى بدأ بالتآكل السريع. ولذلك قام الرئيس الأميركي نيكسون بالاتفاق مع رئيس البنك الفيدرالي الاحتياطي آرثر بيرنز (Arther F. Burns) على تخفيض سعر الدولار حيال الذهب والعملات الرئيسية الأخرى خلال العامين 1971 و1972 بنسبة 30% في المرحلتين. وكذلك وافق الرئيس نيكسون على المقترح القاضي بالتخلي عن استبدال الذهب بالدولار، وبمعنى آخر، فقد عوَّم سعر الدولار. وقد طالب الرئيس نيكسون من الدول الأوروبية مساندته قبل التخفيض، ولكنهم رفضوا ذلك بحجة أن انخفاض سعر الدولار يعود إلى السياسة المالية غير المنضبطة للولايات المتحدة.
وفي ظني، وقد عشت هذه الفترة إبان عملي باحثاً اقتصادياً في البنك المركزي الأردني، ورئيساً لقسم الاقتصاد الدولي، أن الولايات المتحدة رأت من مصلحتها السماح لأسعار النفط بالارتفاع من أجل معاقبة الدول الأوروبية المعتمدة على الاستيراد لهذه المادة الاستراتيجية من الخارج. ولكن أدى رفع أسعار النفط في الأسواق الأميركية إلى زيادة حصيلة الخزانة الأميركية من عوائد الضرائب على الاستهلاك الداخلي من النفط والمازوت وإلى تقليل الاستهلاك، ورفع أسعار الصادرات الأميركية الزراعية والصناعية.
ولكن الأهم من هذا كله أتى انسحاب أميركي من سايغون عام 1975 بشكل فوضوي عكسته مسرحية أنتجت في برودواي نيويورك في نهاية عام 1989 ولاقت نجاحاً كبيراً. وهذا أغضب منتجي السلاح. وعندها نشرت فضيحة ووترغيت، التي اكتشفها (بالصدفة طبعاً) الصحافيان بجريدة الواشنطن بوست، بوب وودورد وكارل بيرنستين وتحولت إلى فيلم سينمائي. ولكنها أدت عام 1974 إلى استقالة الرئيس نيكسون قبل خلعه.
لم يكن رفع أسعار النفط على أهمية عام 1973 قراراً عربياً بحتاً. ولكن الذين قتلوا الرئيس كينيدي عام 1963 لعدم دخوله في حرب ضد كوبا بعد فشل حملة خليج الخنازير هم أنفسهم الذين فجروا فضيحة ووترغيت عام 1972 حتى عام 1974، وأبقت الولايات المتحدة في حالة انفصام وأزمة. وهم أنفسهم الذين يضغطون بكل اتجاه على الدول العربية لعدم رفع أسعار النفط.
لم ينتج من الحرب على غزة أي تأثيرات اقتصادية عالمية كما فعلت الحرب على أوكرانيا. ولكن الموقف العربي الخليجي في رأيي لم يجانب الصواب بامتناعه عن تخفيض الإنتاج من أجل رفع الأسعار. والسبب أن الرئيس الأميركي جو بايدن في بداية المعركة قد زار المنطقة وسعى مع الدول العربية التي زارها كالأردن ودول الخليج ومصر لأن يقنع الأردن ومصر بقبول المهجرين بالسلاح من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى دعوة بعض العرب للمساعدة في القضاء على حركة المقاومة، وإلى اقناع حلف الناتو بدخول المعركة مع إسرائيل والولايات المتحدة كما فعل في الحرب الروسية الأوكرانية.
وقد قوبلت هذه الطلبات كلها بالرفض القاطع، ولذلك بدا من الأفضل الاستجابة للطلب الأميركي بامتناع الدول العربية الأعضاء في أوبك، والمشاركة في اجتماعات (أوبك+) عن رفع أسعار النفط، الذي سيضر أيضاً باقتصادات الصين والهند المستوردتين الأساسيتين للنفط والغاز الخليجيين. ولكن من المتوقع أن تعود أسعار النفط إلى الارتفاع بعد انتهاء الحرب في غزة.
"العربي الجديد"