الاقتلاع الفاشل وممكنات النصر
محمد العامري
27-11-2023 12:43 AM
إن سنوات الاقتلاع المديدة التي انتهجها الكيان الإسرائيلي المحتل تساوي أعمارا كبيرة في عرف المدن، لكنه في كل محاولة له يصطدم بمقاومة عجيبة وأسطورية لا تنطبق عليها القوانين الإنسانية، كأن الكائن الفلسطيني قد وُلد من رحم التراب، فصعب أن تقتلعه من رحمه الذي وُلد منه وفيه.
فأخطر ما أفرزته الشخصية العربية هو تحميل البطل معانٍ لا يمن أن تتحملها جبال، وأصبح ينوء بحمل ثقيل من الممكن أن يسقط عليه ليسحقه، كذلك أسطورة الفلسطيني الذي وقع على كاهله مجموعة من الأحمال الأكثر ضراوة في العالم من قتل وتهجير وحصار ليصبح صورة من أساطير القرن العشرين لدى ضمير الشعب العربي، والذي تمظهر في الحراكات الشعبية المتضامنة مع غزة، فحجم الحمل الذي حمله أهل غزة يكاد يكون خارج معادلات الأوزان المتعارف عليها بل هي خارجه تماما بكونها استثناء تاريخي يحتاج إلى دراسة معمقة ودقيقة في بياناتها وتحولاتها التي تشبه صخرة من الصوان فشل الازميل في اختراقه.
البطل المؤسطر التي تزدهر صفاته لدى شعوب جريحة عانت من خسارات تاريخية لا حصر لها، فما حدث كان صدمة لتحويل الخسران إلى صورة من صور الانتصار ليعيد لتلك الشعوب الجريحة توازنها، فما قالته العجوز الغزّية على شاشة التلفاز من صلابة وقوة وإصرار على المكوث فوق الردوم التي خلفتها القنابل لهو أكبر مثال على مكنزمات العزيمة شبه الأسطورية لهذا المجتمع، ويبدو لي أن أحد أسباب تلك العزيمة انغلاق الأفق العربي أمامهم إضافة إلى تجاربهم السابقة والخادعة.
لقد كشفت حرب غزة عن حجم تورم الدولة العربية المحتشدة بالهتاف، وأصبحت تلك الدول تعاني من حجم نشيدها الوطني الذي يعبر عن تجاوزه لحجم الجغرافيا، نشيد مكلف ولا يمكن التعبير عنه في السلوك السياسي، تماما كما قال كونديرا: "كلما صغرت الدولة كبر نشيدها وتضخمت ذاتها"، وقد ساهمت الدول الكبرى الراعية لتلك الدول في تضخيم الذات السياسية العربية أمام شعوبها كصورة من صور الأمل المعدوم، فلذلك انعكس ذلك على طبيعة التعامل مع الكيان الصهيوني المتحصن بأكبر دولة في العالم، مما اربك الساسة في كيفية إيجاد طرقا جديدة لحفظ ماء الوجه، لكن الكيان الصهيوني الذي لم يُحِدْ عن منهجية الاقتلاع والترانسفير الفلسطيني ظل متمسكا برواياته الكاذبة والمكرورة والتي لاقت إلى حد كبير مناخا مناسبا لدى ساسة الغرب وبعض العرب، وقد أشار سبينوزا في رسالته عن اللاهوت بقوله "نستنتج أن سفر موسى الذي كتبه لم يكن من الأسفار الخمسة، بل كان سفرا مختلفاً كلية أدخله مؤلف الأسفار الخمسة في سفره في المكان الذي ارتآه". فنحن أمام مواجهة مركبة ومعقدة مع كيان لا يكل ولا يكف عن الكذب في سياق ممارسة منهجية الاقتلاع والاستيلاء على الأرض الفلسطينية، ورغم ما تكشف امام شعوب العالم من أكاذيب وادعاءات إلا أننا ما زلنا أمام منظومة مشفوعة بدعم هائل للمشروع الاحتلالي الوحيد في العالم والذي يشي بمشاريع اقتصادية كبيرة لا تولي أية اعتبار لأصحاب الأرض، دون أن ننسى أكبر عملية اقتلاع للفلسطينيين في العام 1948، والمشكلة أن هذه المنهجية رغم معارضة العرب لم تزل قائمة وفاعلة كذلك، ليصبح الانسان الفلسطيني بعيدا عن أي مأمن في محاولة من الكيان لزرع صورة الهرب في ضميره، واعتقد أن صورة الهرب الفلسطيني قد انتفت عبر الحراك الشعبي وأصبح معكوسا في حياة أخرى عبر التعود على سلوكيات المحتل ومقاومته كفعل يومي يمارسه مع فنجان الشاي الصباحي، ويكاد لا يخلو بيت من البيوت الفلسطينية إلا وفيه معتقلا أو أسيرا وشهيدا، وأعتقد أن الفعل المقاوِم اليومي قد أبطل كثير من نظريات التهجير عبر الترهيب والعسكر والآلة القاتلة، فتحولت الدبابة بنظر الطفل إلى دمية ضخمة من الممكن أن يصعد على ظهرها، وأخيرا نرى إلى ما أنجزته المقاومة من إحياء غير عادي للقضية الفلسطيني التي دخلت إلى كل بيت في العالم، وحولت البوصلة لاتجاهات لا يتمناها العدو، وصارت شعارا يلهج به جميع الناس حيث أعادت الكرامة لروح الشعوب، بل وغرست الممكنات المأمولة للانتصار الذي غاب طويلا وأصبح كرمس دارس، فهل يتم استثمار تلك المنجزات على الصعيد السياسي والعمل على حصد مكتسبات في ظروف تبدو مواتية تماما.