مخاصمة الاحتلال دولياً: تقدير موقف
د. مصون شقير
26-11-2023 10:56 AM
بينما يعاني أهلنا في غزة من كافة أشكال العدوان البربري الذي ترتكبه دولة الاحتلال بهدف الاجتثاث والإبادة الجماعية، جاء البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية الطارئة الأخير حافلا بعبارات الشجب والإدانة من جهة وإعلان المواقف والطلبات من جهة أخرى دون تبنّي أية وسائل مؤثرة لإنفاذها، وتم تتويج هذا البيان بنية توّجه المؤتمرين الى المحكمة الجنائية الدولية بما في ذلك الذهاب في مسار الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية باعتقاد أن ذلك يبرئ ذمتهم ويريح ضمائرهم من شلال الدم الذي يسيل في غزة.
وإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية مختصة وبموجب نظامها الأساسي بالنظر في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم العدوان، وهي مجموع الجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال فعلا في غزة وعموم أراضي فلسطين على طول مدة الاحتلال، إلا أن التقاضي أمام هذه المحكمة يحفل بكثير من التحديات الجوهرية ومنها أن اختصاصها هو اختصاص تكميلي، بمعنى أنه حتى يتم تفعيل اختصاصها فيجب أن تكون الدولة التي لها ولاية على هذه الدعوى غير راغبة بالتحقيق فيها أو غير قادرة على القيام بذلك، وعليه فإذا أبدت دولة الاحتلال رغبتها بالتحقيق في أي من الجرائم المنسوبة إلى مسؤوليها "ولو كيدياً" فإنها بذلك ترفع يد المحكمة الجنائية عن نظر الشكاوى ضدها، وقد سبق لدولة الاحتلال أن قامت بذلك في عام 2002 حين فتحت تحقيقا في شكاوى مقدمة ضدها لِتُفشِل تحقيقا آخر بدأ في إسبانيا بالاستناد الى الولاية القضائية العالمية.
ونضيف بأن هذه المحكمة لا تتمتع بالاستقلالية المطلقة من حيث أحكام نظامها والذي يجيز لمجلس الأمن بموجب المادة (16) منه الطلب الى المحكمة عدم جواز البدء بالتحقيق أو المقاضاة أو الاستمرار فيها لمدة اثني عشرة شهرا قابلة للتجديد وبالشروط ذاتها، وجميعنا نعلم موازين القوى داخل مجلس الأمن وآليات اتخاذ القرارات فيه والتي لم يثبت أنها كانت يوما في مصلحة الشعب الفلسطيني، وكذلك من حيث ممارساتها إذ طلبت دولة فلسطين في العام 2014 من هذه المحكمة إجراء تحقيق في الجرائم المرتكبة من دولة الاحتلال، إلا أن المحكمة لم تبدأ بالتحقيق حتى تاريخه، واكتفت في العام 2021 بإصدار قرارٍ يفيد بأن ولايتها القضائية تمتد إلى داخل الأراضي المحتلة رغم أن دولة فلسطين قد وقعت على اتفاقية الانضمام الى نظام المحكمة الجنائية منذ العام 2014، بالمقابل فإن مدعي عام هذه المحكمة بدأ تحقيقا بشأن الوضع في أوكرانيا بعد نحو أسبوع فقط من بدء الأعمال العسكرية بين روسيا وأوكرانيا وقرر إثر ذلك إصدار أمر اعتقال بحق الرئيس بوتين، ناهيك عن أن هذه المحكمة تعاني من تحديات مالية ومعظم تمويلها يأتي من اشتراكات الدول الأعضاء فيها، وقد سبق لدولة الاحتلال أن حاولت التأثير على بعض الدول الأعضاء في هذه المحكمة لوقف تمويلها عندما تقدمت دولة فلسطين بالشكوى في العام 2014 .
كذلك فإنه وحتى يتم الاستمرار في إجراءات التحقيق فإنه لا بد من مثول المشتكى عليهم أمام هذه المحكمة، وحيث أنه ليس للمحكمة شرطة دولية تساعدها على إنفاذ قراراتها فإنها تعتمد في ذلك على تعاون الدول وبخاصة تلك المعنية بالشكوى، ولنا أن نتصور هنا مدى صعوبة أو لربما استحالة مثول أي من المشتكى عليهم في دولة الاحتلال أمام هذه المحكمة.
ونضيف بأن المحكمة الجنائية الدولية لا تقاضي دولاً وإنما أشخاص طبيعيين، وبالتالي وبفرض تجاوز جميع التحديات السابقة وصدور قرار بإدانة أي من مسؤولي دولة الاحتلال، فإن ذلك لن يعطّلها عن الاستمرار في ارتكاب جرائم أخرى لأنها دولة استعمارية واستخدام القوة والبطش أحد أهم مرتكزات وجودها وبقائها، ولأن مقاضاة نفس دولة الاحتلال يمثل هدفاً استراتيجياً فيصبح اللجوء كذلك إلى محكمة العدل الدولية –والتي تقاضي الدول وليس الأفراد- خيارا أساسياً ولكن ليس لأخذ رأياً استشارياً منها كما ورد في مقررات القمة الأخيرة وإنما لمقاضاة دولة الاحتلال على جرائم الإبادة الجماعية استناداً إلى صلاحياتها الواردة في المادة (9) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وكان على المؤتمرين أيضا الطلب اليها فورا اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية أهل غزة من جرائم الإبادة الجماعية استنادا الى صلاحياتها الواردة في المادة (41) من نظامها الأساسي وقياساً على قرارٍ سابق لهذه المحكمة اتخذته في العام 2019 لحماية الروهينغا اللذين بقوا في ميانمار من الإبادة الجماعية.
وبقدر ما تحتاج هذه التحديات وغيرها الى جهود قانونية مميزة، فإنها تحتاج كذلك الى روافع سياسية تتمثل في وجود كتلة سياسية رسمية عربية حرجة تتقاطع مع رأي عام دولي يوفران معا مناخا ضاغطا لأن تقوم المحاكم الدولية بواجباتها وبالسرعة اللازمة، علماً بأن الأدوات القانونية في عالم السياسة لا تكفي لوحدها إذ كان على المؤتمرين في الرياض ممارسة كافة أشكال الضغط السياسي والاقتصادي ومنها وقف التطبيع مع دولة الاحتلال، وتفعيل كافة أدوات المقاطعة الاقتصادية في مواجهتها بشكل صارم وفعّال، وقطع جميع أوجه العلاقات السياسية والاقتصادية معها أو على الأقل تعليقها وكل ذلك الى حين التوصل الى إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس وعندئذ يمكن للذمم أن تبرأ وللضمائر أن تستريح.