لم تخل الحملة الأخيرة لمقاطعة منتجات الشركات التي تدعم إسرائيل من الجدل. فبينما يرى البعض أن المقاطعة عمل وطني وواجب، يرى البعض الآخر أن المقاطعة ضارة بالمنتجين والتجار المحليين وسلاسل التوريد المحلية. وبالتالي، فإن قضية المقاطعة تتطلب بعض التحليل.
ما هي المقاطعة الاقتصادية (بويكوت)؟
وفقًا لقاموس كامبريدج، فإن فعل المقاطعة هو "رفض شراء منتج أو المشاركة في نشاط ما كوسيلة للتعبير عن رفض شديد". تم استخدام المقاطعة منذ نهاية القرن التاسع عشر للاحتجاج على الممارسات التي تعتبر غير عادلة. وتأتي كلمة "مقاطعة" (بويكت Boycott) من اسم تشارلز كننغهام بويكوت وهو وكيل أراضي إنجليزي قام في عام 1890 برفع الإيجار بشكل كبير على مستأجريه في أيرلندا وقام بإجلائهم جماعيا. أدى ذلك إلى اتحاد المجتمع ورفض الدفع له أو العمل معه، مما أجبره في النهاية على المغادرة. ومنذ ذلك الحين، تم استخدام بويكت كأداة فعالة وغير عنيفة لرفع مستوى الوعي بالقضايا، وكثيرًا ما أدت إلى تغييرات إيجابية.
أمثلة على المقاطعة
تعتمد فعالية المقاطعة على مستوى الدعم الشعبي الذي تتلقاه، وحجم الشركات المستهدفة، وطول مدة المقاطعة، ووضوح رسالتها. هناك العديد من الأمثلة على المقاطعات الناجحة. ومنها أن المهاتما غاندي قاطع البضائع الأجنبية الصنع، وخاصة البضائع البريطانية، وشجع على استخدام السلع الهندية الصنع بدلا من ذلك لإظهار الدعم الوطني واسع النطاق للاستقلال من الاستعمار البريطاني. كما نظم مارتن لوثر كينغ جونيور، أحد قادة حملة الحقوق المدنية في أمريكا، مقاطعة حافلات مونتغمري في عام 1955، مما أدى إلى تسليط الضوء على الحقوق المدنية على المستوى الوطني وأدى إلى حظر الفصل العنصري في الحافلات العامة. كما رفضت غالبية الدول في أوائل الثمانينات التعامل مع جنوب أفريقيا أو السفر إليها، مما أدى إلى إنهاء نظام الفصل العنصري هناك.
وفي الآونة الأخيرة، انتشرت مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل في جميع أنحاء العالم العربي. وحتى في دول مثل البحرين التي أدلت القيادة فيها ببعض التصريحات والمبادرات التي لم يُنظر إليها على أنها شعبية، فقد نظمت الجمعية البحرينية لمناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني اعتصامًا في العاصمة، في 17 نوفمبر 2023، دعمًا لـ الشعب الفلسطيني والمطالبة بإلغاء اتفاقيات التطبيع بين البحرين وكيان الاحتلال.
المقاطعة في الأردن
مدفوعة بهجمة إسرائيل الإجرامية على المدنيين في غزة وبقية أنحاء فلسطين، بدأت المقاطعة في الأردن بعد 7 تشرين الأول 2023، وسرعان ما اكتسبت شعبية واسعة، بدعم من حركة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (BDS) (وهي حركة متجذرة وراسخة في الأردن ومعظم أنحاء العالم)، الشركات التي أعلنت أو قامت بدعم إسرائيل من خلال الهدايا العينية أو المالية، مما أثار الحساسيات لدى الأردنيين وغالبية المواطنين العرب.
وبالتالي، أدت المقاطعة إلى إغلاق عدة منافذ بيع مع انخفاض المبيعات، وتضررت سمعة الشركات المستهدفة ومنافذ بيعها، وتسرح بعض موظفيها. كما كان التأثير على الشركات الأم ملموسًا أيضًا، إذ أن من المرجح أن تنخفض أرباحها بالنسبة للاسهم وكذلك أسعار أسهمها. إن حرب المقاطعة الاقتصادية التي يشنها الأردنيون وغيرهم في جميع أنحاء العالم تظهر مؤشرات على فعاليتها، وستتعمق نتائجها إذا ما استمرت لفترة طويلة.
في الأردن، الدولة ذات النمو الاقتصادي المنخفض، ومعدل البطالة الذي يتجاوز 22%، وارتفاع معدلات الفقر، والموازانة الفاقدة للمرونة ماليا، والدين العام المتزايد، تطفو المسألة الاقتصادية والاقتصاد الوطني بسرعة الى سطح الحوار. حيث يرى البعض أن المقاطعة قد تؤدي إلى تفاقم سوء الوضع الاقتصادي والضائقة الاقتصادية الحالية. علاوة على ذلك، تزعم الأصوات المناهضة للمقاطعة أن دولة مثل الأردن، التي ربطت رؤيتها للتحديث الاقتصادي بنمو القطاع الخاص وارتفاع مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، ستعاني من انحراف في خطط التنفيذ الخاصة برؤية التحديث لأن حالة عدم اليقين تحد من الاسثمارات المحلية والاجنبية كما تقلل من الاستهلاك وبالتالي الطلب الكلي، فلا تتحقق المستويات المستهدفة للنشاط الاقتصادي.
ومع ذلك، يجب على المرؤ أن يضع في اعتباره أنه عادة، في أي وقت تتأثر فيه مجموعة من أصحاب المصالح بسياسة أو قرار أو حالة اقتصادية، يحاول أعضاؤها إقناع الجمهور والجهاز التشريعي والحكومة بأن مصالحهم هي أيضًا مصالح البلد كله. متناسين بذلك دائرية الاقتصاد وتكامله، حيث توفر الخسائر الاقتصادية الفرص والمكاسب للبعض الآخر، وهو المفهوم الذي تم شرحه بشكل جيد في مبدأ "التدمير الخلاّق" لجوزيف شومبيتر وهو مبدأ بنيت عليه فكرة الاقتصاد الحر.
أيضا، يمكن بسهولة استبدال المنتجات الغذائية المستوردة بمنتجات محلية، مما يساعد على نمو منتجات محلية جديدة وناشئة، بشرط توافر بيئة عمل مناسبة، ويقلل من عجز الميزان التجاري والضغط على الدينار الأردني.
ويظهر التاريخ أن العقوبات المفروضة على الدول أدت في بعض الأحيان إلى استبدال الوارد بالمحلي مما أدى إلى حدوث تقد سريع في النشاط الصناعي. فعندما وضعت هولندا بريطانيا تحت الحصار، ظهرت الأخيرة في غضون سنوات قليلة كدولة صناعية. وعندما فعلت المملكة المتحدة الشيء ذاته مع الولايات المتحدة، ظهرت الولايات المتحدة كقوة صناعية عظمى.
كما أن الدول المحيطة بالأردن التي عانت من عقوبات اقتصادية، أصبحت أكثر صناعية من خلال الاعتماد على الذات. ومثل هذه الأمثلة كثير، وهي ليست إلا تجليات للقول العربي "الحاجة أم الإختراع" والأردن لن يكون الاستثناء. ولذلك، على الرغم من أنه قد تكون هناك خسائر وتكاليف للتكيف يتحملها المشترون والبائعون على المدى القصير وربما الوسيط، فإن التأثير على طويل المدى قد يعوض الاقتصاد بشكل جيد ويقويه.
علاوة على ذلك، هناك تكلفة في الحروب الاقتصادية، كما هو الحال في الحروب العادية. تحمّل هذه التكلفة أمر مقبول من حيث المبدأ، وطالما أنه يدعم التطلعات الوطنية للبلاد ويلحق الضرر بالعدو. ولذلك، وفاءً واحتراماً لإخواننا وأخواتنا وأبنائهم في غزة يجب أن يستمر الأردنيون في المقاطعة وأن يظهروا عزتهم ووطنيتهم من خلال المقاطعة على المدى الطويل. أما من منظور اقتصادي بحت، يجب علينا أن ننظر إلى تكاليف المقاطعة على أنها بعض تكاليف الحرب الاقتصادية، ومجموعة من الفرص لتنمية الصناعة والمنتجات المحلية.