أسطورة حرية سطرها شعب فلسطين أمام بوابات ومعابر، خرجت أسيرات كن يترقبن الحرية من باب سجن الدامون في اتجاه سجن "عوفر"، تمهيداً لإطلاق سراحهن، عيون مقدسية تترقب العودة إلى بيت المقدس، وسلوان، وأبو ديس، والعيزرية، والرام، ومنهن نورهان عواد، وفدوى حمادة، وملك سليمان، ومرح باكير، وشروق دويات، ونفوذ حماد، وعين ياسمين شعبان على جنين، وعلى مخيم جنين، وروان أبو زياد على رام الله، وعميدة الأسيرات ميسون الجبالي على بيت لحم ومهد المسيح، وأعين على الخليل وعلى حرمه، وعلى غزة وعلى عزتها، وعلى كل مدن فلسطين.
أسطورة حرية عبر بوابات، وعشرات مئات حكايات خارج معتقلات، يحملها فتية من الأسرى، يعانقون شمس الحرية، ويخرجون عبر بوابات سجون المحتل إلى فضاء الوطن، وحضن الأمهات، يقبلون التراب، ويستعيدون ترانيم وأناشيد قطف الزيتون، وعصر العنب.
وفي رفح بوابة أخرى، يعبر منها الفلسطيني قادماً من بلاد الآخرين إلى غزة. وقف أهل غزة على باب المعبر، وانتظروا مئات الساعات اللحظة التي يعبرون فيها إلى مدينتهم الخاربة، أن يعودوا خلال أيام الهدنة إلى وطنهم الغزي المدمر قبل استئناف القتال مرة أخرى، وتلك بوابة لا يفهم كينونتها، وسرّها، وسعتها، وأفقها، ودلالاتها، إلا غزي وغزية؛ بوابة العودة إلى الوطن، مدمر نعم، يخلو من الوقود، والماء، والغذاء، نعم، لا سقف لبيوته، لا مأمن، ولا مسكن، لكنه الوطن كيفما اتفق، إنه السكن بعينه، إنه الوطن الفلسطيني الذي يسكن في قلوب أهله.
عادت الطيور الغزية بالأمس إلى أعشاشها، الله أكبر، لم يخرج أهل غزة بالأمس، عاد من كان خارجها، ليقف على تراب أرضه حيث يجيد الوقوف، وحيث يحب العيش. عادت بالأمس طيور السنونو عبر معبر رفح إلى غزة، وعاد معها الدوري، والحسون، والأب والأم والطفل والطفلة، وتلك جدلية يحاكي فيها الباب المعبر، ويسجل فيها السجين اسمه في سجل الخروج على يد السجان، ويسجل فيها الغزي تسجيل الدخول إلى قلب الوطن، والدخول كما الخروج، وإن اختلفت البوابات، كلها تقود إلى نقطة واحدة، وهدف واحد؛ الحرية، وتعزيز الصمود. الوطن هو البوصلة، لا تهجير، ولا كسر للإرادة، إنها باختصار حكاية مفادها: الوطن الأم، أو الموت، وبمعنى آخر: نصر أو استشهاد، وذلك هو الطريق الوحيد نحو الحرية، إنها راية جيل قاوم، يسلّم الرسالة إلى جيل قادم، ويقول له: يا بني، قاومتُ فقاوِم.
لا يشبه ما بعد غزة على الإطلاق ما قبلها، وقد أصبح التوقيت توقيت غزة، الحرب تبدأ بتوقيت غزة، والهدنة موقتة بتوقيت غزة، والشمس تطلع بتوقيت غزة، والفجر، والدولة، والحرية، والمنعة، والاستقلال، والتحرر من الخوف، والمسافات تقاس بمقاييس غزة، مسافة الصفر مسافة غزية، والهندسة تبدأ في غزة، أهمها المثلث الأحمر المقلوب، والمثلث الأزرق، وكل ما هو متساوي الساقين من خطوط عرض وطول، تعيد رسم الخرائط كما كانت في أيامها الأولى.
طوبى للشهداء، والشفاء للجرحى، طوبى لأهل فلسطين، والنصر صبر ساعة، وطوبى للأردن وقيادته وجيشه وشعبه على هذه الوقفة التاريخية الصلبة، وطوبى لمصر وقيادتها وأهلها على وقفتهم الوطنية الشجاعة، وطوبى لكل عربية وعربي قدم عوناً، أو سجل موقفاً، أو ذرف دمعة، وشكراً لكل حر وحرة في هذا العالم، ولكل من وقف إلى جانب الحق، والعدالة، ولكل منصف، ولكل أصحاب الضمائر الحية في وقت تحتضر فيه الضمائر.
وتلك جولة، وما يتمناه القلب ليس على الإطلاق مواصلة القتل والحرب والدمار، وليس هدف الفلسطيني إبادة شعب إسرائيل، ولا ارتكاب محارق ومجازر كما يفعل العدو في غزة، كل ما يطلبه الفلسطيني حقه الشرعي والقانوني والإنساني في حريته، وتقرير مصيره، وإقامة دولته على أرضه، والفلسطيني لا يحب الموت، ولا يريده، وهو يعرف معنى الحياة أكثر من أي شعب آخر في الدنيا، لأنه أكثر شعب ذاق طعم الموت، ومرارة الحرمان، ولكنه لن يتنازل عن حقوقه، ولن يستسلم بعد هذا العدد من الشهداء، ومن الدماء، والتضحيات.