تونس - بعد شهر على إطاحتهم برئيسهم زين العابدين بن علي وزوجته ليلى وأصهارهم ممن أحالوا البلاد إلى شركة خاصة, يستعيد التونسيون إيقاع حياتهم اليومية تدريجيا, على وقع تحسن الأوضاع الأمنية ما سرّع برفع الحظر الجزئي كليا قبل أيام.
لكن الأفق السياسي ما يزال ملبدا بغيوم الحيرة, القلق والخوف. هذه المشاعر ما انفكت تسيطر على غالبية مكونات المجتمع, بدءا برجل الشارع وانتهاء بالنخب, القلقة على قالب بلادها السياسي انطلاقا من الفترة الانتقالية لما بعد الثورة المفاجئة- التي خلعت نظام بن علي بعد 23 عاما - وصولا إلى شكل تونس الجديدة وهويتها بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة الصيف المقبل.
وفي خلفية المشهد الداخلي خشية انزلاق البلاد صوب الفوضى; فتح الطريق أمام عودة دكتاتورية جديدة إما بقيادة العسكر لاستعادة الأمن على حساب الإصلاحات الديمقراطية, أو باسم الدين أو باسم الشعب عبر جماعات سياسية وأحزاب ومنظمات تتسابق لركوب موجة الشارع المتحرك.
فكما يقول المثل الشعبي, راحت "نشوة" الثورة العفوية التي لم يخطط لها أحد, وجاءت الفكرة; وعنوانها كيفية العمل على ضمان فترة انتقالية لتحقيق تعددية سياسية, تعزيز الديمقراطية وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار لضمان أمن البلاد المتجانسة دينيا وعرقيا بطريقة لافتة مقارنة مع جيرانها.
التحدي الأكبر يكمن في غياب توافق وطني على ماذا ينبغي أن يأتي أولا: مشروع دستور جديد أو انتخاب مجلس تأسيسي يرسم دستورا جديدا للبلاد.
فالثورة التي اشتعلت بعد أن أضرم بائع الخضار الشاب محمد البوعزيزي النار في جسمه يوم 17 كانون أول/ديسمبر الماضي, كانت شعبية بامتياز. كان وقودها غالبية شبابية فقدت الأمل في المستقبل بعد أن أهينت كرامتها. نظموا أنفسهم عبر فضاء الانترنت وعلى صفحات الفيسبوك التي يشترك فيها ما يناهز 1.5 مليون مواطن, وعبر مسجات "التويتر" خارج أطر الأحزاب السياسية التقليدية. ثم ارتحل الشباب من الفضاء الافتراضي الى شوارع تونس.
بدأت الثورة في المناطق المهمشة وأحياء العشوائيات, وانتهت في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي وسط العاصمة مع هروب بن علي وليلى تحت ضغط الشارع يوم 14 كانون ثاني, بينما كانت المعارضة التقليدية تسعى لاستعادة موطىء قدم على الخريطة السياسية.
اليوم يجد التونسيون أنفسهم بقيادة حكومة مؤقتة فاقدة للشرعية السياسية, منطوية على نفسها لا تتواصل مع المجتمع المدني, لم تقنع المواطن أنها بصدد فعل ما في سياق حلحلة الأوضاع قبيل مأزق انتهاء المدة الدستورية للرئيس المؤقت يوم 15 مارس/ آذار.
تواجه الحكومة اعتصامات يومية أمام مقر مجلس الوزراء في القصبة, وفي طول البلاد وعرضها ومن مختلف التيارات والتجمعات. الشباب يعتصم أيضا لحماية الثورة من أي انحراف في أهدافها ومن أن يستغلّها انتهازيون, أحزاب أو هيئات سياسية دون وجه حق.
عملية إعادة بناء النظام السياسي مليئة بالمطبات. قوات الشرطة ضعفت كثيرا بعد أن شهدت عمليات هجر جماعي أثناء الثورة وطرد لعناصرها المتنفذة عقب فرار بن علي. هناك تخبط في الإدارات العامة وداخل الوزارات, بسبب تبديل الكثير من الوجوه التي ارتبطت ببن علي. الإدارة المركزية, من خلال المحافظات باتت شبه معطلة بعد أن رفض بعض الولاة الجدد قرار التعيين أو منعوا من الجلوس في مقاعدهم بسبب المظاهرات الشعبية التي انتقدت تعيينهم.
على الأرض لا توجد قيادة سياسية موحدة خططت لإسقاط بن علي وتحمل اليوم بدائل اقتصادية وبرامج سياسية واضحة لتحل مكان النظام البائد المنفتح اقتصاديا, العلماني ببعده الاجتماعي, والقمعي ببعده السياسي, وذراعه الحاكم - التجمع الدستوري الديمقراطي. هذا التجمع حل بعد الثورة لكن غالبية رموزه ما تزال تجلس في مقاعد السلطة بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي محمد الغنّوشي.
فرأس نظام بن علي الدكتاتوري قطع, بحسب ما يحذر نشطاء حزبيون, أكاديميون وإعلاميون, لكن أعضاء جسده ما تزال موجودة في مفاصل الدولة السياسية والأمنية كافة. وسيقاومون بشراسة أي مسعى لتجريدهم من نفوذهم ومكاسبهم, فكرسي الحكم مغر, خاصة لمن أدمن عليه واستفاد من تنفيعات المنصب المادية والمعنوية.
الإعلام المدجن لعقود يستفيق من غيبوبته. إدارات الإعلام الحزبي, الحكومي وحتى الخاص الذي سيطر على بعضه أصهار بن علي, دخل لعبة تسديد حسابات. قيادات مؤسسات إعلامية تتعرض إلى عملية تطهير ومحاسبة من قواعدها بعد أن كانت أبواقا لنظام بن علي مخيرة, أو مكرهة.
الإدارات الجديدة تمشي على حبل مشدود, تتعرض يوميا لانتقادات من الجسم الصحافي المنضوي تحت لوائها في حال شك أن سياساتها التحريرية لا تعكس نبض الشارع, أبواب الحريات الصحافية فتحت على مصاريعها, لكن حال غالبية الصحافيين كمن وجد نفسه ملقا في بحر هائج دون أن يتمتع بأدنى مؤهلات العوم حتى في بركة سباحة.
فالحرية المنفلتة أصبحت وجها آخر للفوضى. الجميع أصبح يقول ما يريد, أينما يريد وفي الوقت والزمان الذي يختار دون ادنى حد من التفكير بمصلحة البلاد.
القضاء المدني مرعوب فاقد للتوازن بعد سنوات من التهميش وتلقي الأوامر من وزارة العدل وسلطة قضائية فيها ما لا يقل عن 100 قاض "فاسد" من بقايا حقبة بن علي, أصبح مطلب إخراجهم ضرورة لتطهير السلطة القضائية. جدل داخلي مستعر في نقابة المحامين حول الترافع في قضايا الرئيس المخلوع وحاشيته, يدور حول واجب المهنة وواقع الثورة. محامون يعتبرون أن ما تقوم به لجنة مقاومة الفساد والرشوة من أعمال تفتيش وحجز أموال بمقر إقامة الرئيس المخلوع بسيدي بوسعيد اعتداء على صلاحيات القضاء وتسييس له.
أحزاب سياسية "ورقية" وقديمة خرجت من مأتم نظام بن علي, ضعيفة, بدون شرعية وبرامج عمل واقعية, تتسابق اليوم مع 40 حزبا وتجمعا سياسيا جديدا قيد التأسيس في محاولة لكسب ثقة ناخبين محتملين قبل الانتخابات.
مجتمع مدني ينهض بصعوبة من غيبوبته, فئات شبابية تبحث عن أنموذج لقائد يجمعها, وتنشد فرص عمل ومستوى معيشيا يضمن الحد الأدنى من الكرامة. يتوافق الشباب حول قيم العدالة, المساواة والأمان, اساسيات حقوق المواطنة, لكنها تتنازع بين أطر سياسية تعكس العلمانية من جهة, أو الإسلام السياسي الذي عاد قادته للحراك العلني بعد سنوات من التنكيل والنفي.
لجنة الإصلاح السياسي التي شكلت بعد الثورة بقيادة عياض بن عاشور, عميد كلية الحقوق سابقا الذي استقال من المجلس الدستوري أيام بن علي, تتحدث عن أربعة سيناريوهات للإصلاح, لكن بعد التشاور مع جميع الإطراف الفاعلة من شخصيات وطنية, جمعيات غير حكومية, أحزاب, نقابات, اتحاد الشغل, هيئة المحامين, ومجلس حماية الثورة الذي يضم ممثلي أطياف اللون السياسي من أقصى اليمين واليسار دون برنامج عمل توافقي.
يتمثل السيناريو الأول, بحسب اللجنة, في الذهاب مباشرة إلى انتخابات رئاسية عند انتهاء صلاحيات الرئيس المؤقت في منتصف آذار المقبل. ويمكن تمديد المدة لحين تنظيم انتخابات رئاسية يدعو بعدها الرئيس المنتخب للنظر في تعديل الدستور وإنشاء مجلس تأسيسي. السيناريو الثاني يشير إلى تمديد العمل بالفصل 57 من الدستور وانتخاب رئيس ومجلس تأسيسي معا, أما السيناريو الثالث فيرجح انتخاب مجلس تأسيسي مباشرة بعد انتهاء المدة الرئاسية ثم تسمية رئيس مؤقت وحكومة انتقالية لبضعة أسابيع تدعو إلى انتخابات, أما لسيناريو الرابع فيتمثل في الاتفاق بين جميع الإطراف حول مشروع دستور جديد يخضع لاستفتاء شعبي.
يقول بن عاشور إن الأهداف الرئيسية للجنة تفكيك وإزالة النظام السابق "المبني على الفساد, الخيانة, السرقات, التعذيب وانتهاك الحرمة الجسدية والذي كان يتحكم بمقتضى التنكيل والإقصاء معتمدا في كل ذلك على الدستور والقوانين التي نقحت مرارا على مقاس الشخص الواحد والحزب الواحد".
ثلاثة أرباع التونسيين لا يعرفون حتى الآن لمن سيصوتون خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة, بحسب استطلاع رأي نشر قبل أيام.
فثمانية بالمئة من المستطلعين قالوا إنهم سيصوّتون لأحمد نجيب الشابي الزعيم التاريخي للحزب الديمقراطي التقدمي الذي يتولى وزارة للتنمية الجهوية في الحكومة التونسية المؤقتة الحالية, و4.4 % قالوا إنهم سيصوتون للجنرال رشيد عمار رئيس أركان جيش البر, بينما حل ثالثا رئيس الوزراء الحالي محمد الغنوشي بنسبة 3.7 %. فيما حصل زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي الذي عاد من منفاه قبل اسابيع على 1.6 % فقط.
تونس اليوم أمام مفترق طرق, حال غالبية الدول العربية التي اجتاحتها رياح التغيير منذ أن كسرت ثورة تونس خوف المواطن من السلطة إلى غير رجعة.
إما الولوج إلى فضاء نظام سياسي عصري خاص به, منفتح اقتصاديا, مسؤول اجتماعيا عن الفئات المهمشة في بلد تشكل طبقته الوسطى عماد المجتمع, يلبي مطالب غالبية شبابية ويعلي من شأن حق الفرد, يضمن كرامته ويحمي حريته في ظل ديمقراطية تصون فيها الأكثرية حقوق الأقلية السياسية ومنجزات البلاد بعيدا عن الانغلاق والتزمت, أو دكتاتورية عسكرية, دينية أو شعبوية أبشع من دكتاتورية بن علي وزوجته الثانية, تصعد على أكتاف تخويف الناس من الفوضى, الانفلات الأمني, المجاعة, الفقر والتخلف.
فبدلا من وضع الشعب أمام خياري دكتاتورية الفرد الحاكم ودكتاتورية الدين لا بد من شق طريق ثالثة تليق بتونس وأهلها فهم يستأهلون كل الخير, التقدم, الرفاه.
العرب ينتظرون المولود التونسي الجديد بعد مخاض عسير, لعل النظام السياسي الجديد في تونس يوفر قدوة لسائر الشعوب العربية التي تأثرت بعدوى تونس الشعبية, لكنها تواجه اليوم التحديات الداخلية ذاتها في بناء أسس دولة القرن ال¯ .21
حمى الله تونس ومنجزات ثورتها الشعبية
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)