هي الحرب لا تبقي ولا تذر، ثمة ولادة هجينة للقتل، شغف بالدم الساخن وصراخ الأمهات، لا شيء يجعلك تدرك طبيعة الحرب في تطور أدواتها المتقنة في القتل، كقذائف مزودة بشفرات حادة مهمتها قطع الأطراف، قذيفة الإعاقة ما بعد الحداثة، هذا الاعتداء السافر الذي يُخاض ضد الشعب الفلسطيني في غزة يذهب إلى مدايات سوريالية توقعها سلفادور دالي في عمله الشهير الحرب الأهلية، أو ما ذهب إليه فرانشيشكو دي غويا في غرافيكياته التي أظهرت خوزقة الكائنات الإنسانية، ثمة جيش يوقوم بمهمة الإبادة السافرة وهو يقضم بسكويت بالشوكولاتة، قتل تبثه فضائيات العالم مثل فيلم للرعب البشري كفيلم طارد الأرواح الشريرة الذي أخرجه ديفيد غوردون غرين ، في سيلان الدم ورائحة الأعضاء المبتورة ثمة سياسيون يناقشون ماذا بعد غزة، ولم يخطر على بالهم ولو للحظة صورة لأم تحمل طفلها وهي تصرخ "مات مات" ويفترض أن يشتم هؤلاء رائحة الشواء البشري في غزة ويبدو أنهم يعانون من زكام في الأفكار، فالإبادة التي ينفذها الجيش الصهيوني يفترض أن تأتي بنصر قريب وولادة جديدة لحياة أكثر كرامة، ففي صالوناتهم ثمة موتى بلا أسماء، وثمة دفاتر عائلة قد مسحت من مخيلتهم.
ففي لحظة جحيمية ينهدم سقف على صغار نيام كأنه الحلم المرعب والمفاجئ، أو أن تقفز يد مقطوعة في الهواء وهي تلوح لنا بالنصر، ليس كافيا أن تعبر الحرب، لكنهم في حرب الكوابيس الآتية من مشاهد لرعب لم يتحقق في الام الرعب.
ها نحن قد استيقظنا على فجر جرحى يتعكزون على بعضهم في رحلة قاسية للتهجير القسري، فمن كُتبت لهم النجاة سيعيشون في عزلة الإعاقة تماما ككائنات البير كامو في روايته الطاعون، فنحن في سيرة جديدة غزية بامتياز، أرامل وأبناء بلا آباء وآباء بلا زوجات وأبناء، سلسلة تتقطع في سيرة الليل وتأمل ما تردم من بيت هنا وهناك. إنها عودة للأسطورة ذاتها التي تُحمِّل الضحية وزر القاتل، تلك التي جعلت من الضحية قاتلا إرهابيا وجعلت القاتل مدافعا عن النفس وبطلا، وهي نفسها التي جعلت جماجم المقاومين الجزائريين عقابا رادعا لكل مَن تُسوِّل له نفسه مقاومة المحتل، وما زال ملف جماجم المقاومين الجزائريين يثير حفيظة الفرنسيين الذين صنعوا منها متحفا للجماجم وعرضت بما يقارب القرنين من الزمان، ثمة حقد بشري لا يمكن أن تفهمه، شهوة القتل والإبادة، شهوة الخراب والتخريب، شهوة الإقصاء والتهجير.
فما يحصل في محرقة غزة يظهر على نحو ملفت لما ذهب إليه تشومسكي قبل خمس عشرة سنة، وكان ما كتبه تشومسكي يبدو طازجا إلى يومنا هذا، والملفت في كلامه هو كشفه نوازع الإبادة في الممارسة الصهيونية، أسبابًا وعقيدةً وأهدافًا، أنّ ثمة تكتيكًا يعتمده الصهاينة منذ الخمسينيّات هو "الإصابة بالجنون"، إذ يتلذذ الصهيوني بنعت الجنون كأسلوب متبعا لممارسة شهوة القتل غير المحدود، من باب إبادة كل شيء حي، فبالنسبة إلى "إسرائيل": "قُدّت حماس من أديم واحد، وبالتالي تغدو أدوات سيطرتها السياسية والاجتماعية أهدافًا مشروعة مثلما هي مخابئ صواريخها". يؤكد تشومسكي في مداخلته هذه على أنّ الإسرائيليين "يتبنّون ضمنًا المنظور التقليدي للذين يحتكرون عمليًّا وسائل العنف: يمكن لقبضتنا المدرّعة أن تسحق أيّ معارضة، وإذا سقط بنتيجة هجومنا المسعور كثير من الضحايا المدنيين يكون ذلك للأفضل. قد يتمّ بذلك تلقين من بقي درسًا مناسبًا"، ويشير اللبناني المحاضر في جامعة أكسفورد فوّاز جرجس، إلى "أنّ إرهاب الدولة الأميركيّ ـ الإسرائيليّ سيفشل، إذ لا يمكن القضاء على حماس من دون ذبح نصف مليون فلسطيني. ولو نجحت إسرائيل في قتل كبار قادة حماس فسيحلّ مكانهم على الفور جيل جديد أكثر راديكالية من الجيل الحالي. فحماس واقع من وقائع الحياة، وهي لن ترحل ولن ترفع الراية البيضاء، بصرف النظر عن حجم الإصابات التي تعانيها".
ورغم امتلاك الكيان الصهيوني لأكثر الأسلحة فتكا إلا أنها لا تمتلك إلا جملة ايدولوجية من الحقد وشهوة القتل، ولم تتصف بأية منظومة للأخلاق عبر التاريخ، ويصف تشومسكي "إسرائيل" بأنّها "أكثر الآلات الحربيّة تقدّمًا تكنولوجيًا، والأكثر تقهقرًا أخلاقيًا في العالم"، ويعود ليؤكد تشومسكي على أنّ الكيان الصهيونيّ "يتمكن من ممارسة أفعاله بوحشيّة قصوى، بفضل الدعم الأميركيّ القويّ ومشاركته في التعذيب الساديّ والجبان لشعب مسجون لا إمكان لديه للهرب فيما يُقصف بأكثر إنتاجات التكنولوجيا العسكرية الأميركية تطوّرًا إلى أن يتحوّل إلى غبار. وهذه التكنولوجيا تُستخدم على نحو ينتهك القانون الدوليّ، بل والقانون الأميركيّ، بيد أنّ ذلك يُعدّ مجرّد أمر تقنيّ للدول التي أعلنت نفسها خارجة على القانون".
ويؤكد الطبيب النرويجي مادس غليلبرت كشاهد محايد على مشهد الرعب كحرب شاملة على المدنيين الغزيين، مقابل لا وجود لضحية عسكرية، ولا بريء في غزة فالكل على مسافة واحدة من الرصاصة القاتلة،
ووفق ما نقلته صحيفة الجيروساليم بوست عن حاخامات صفد، بقوله: "إذا قتلنا مئة منهم ولم يتوقفوا علينا أن نقتل ألفًا، وإذا لم يتوقفوا بعد الألف نقتل عشرة آلاف. وإذا لم يتوقفوا، مع ذلك، علينا أن نقتل مئة ألف، بل وحتى مليونًا، مهما استلزم الأمر لجعلهم يتوقفون".
فهي العقيدة الصهيونية ولا حاجة لنا بالسؤال والبحث عن دوافع القتل والابادة، إبادة ممنهجة لا حدود لها، ومن الممكن ان تطال الجوار حيث لا عهد لهم عبر تاريخهم الطويل.