الموت.. كلمة مرعبة تقشعر لهولها الأبدان، كلمة تثير الرعب في قلوب كل عباد الله، الموت ما ذكر عند جليلٍ إلا وحقره، ما قورن بعظيمٍ إلا وأذله.
الموت.. ذلك المخلوق المرعب الذي ترتعد الفرائص عند ذكره، فهو مخيف، غامض، مرعب، كريه، بغيض للنفس الإنسانية بل وحتى للبهائم، إذا شعر الفيل بدنو أجله فإنه يهجر القطيع إلى مكانٍ بعيدٍ ليلقى حتفه هناك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأسد وبعض الحيوانات الأخرى، وإذا وقع الحيوان في فخ حيوانٍ آخر فإنك ترى في عينيه الرعب والجحوظ والخوف من الموت .
الموت.. حق على جميع المخلوقات من إنسٍ وجنٍ وملائكة وسائر المخلوقات الأخرى، وربما هذا ما أدركه أهل فلسطين. ومهما طال الزمن أو قصر فلا بد لنا من ولوج بوابة الموت، حتى وإن سماه الله تعالى مصيبة و قال " فأصابتكم مصيبة الموت ". فالموت لا يعرفك ولا يجاملك، يأتيك دونما إنذارٍ و يهجم فجأةً كلصٍ غادر، لكنه هجم عليك بقدر من الله، ولا يحتاج إلى واسطة أحدٍ أو إلى استئذانٍ.
في فلسطين لم يعد هناك أحد يبالي بأخبار الموت، لكثرة ما عايشه ورآه في يومياته، فصار يقابل أصوات القصف الإسرائيلي بالسخرية، لكن مرد هذا ليس إلى اختلاف جيني عن البشر، بل هي السنة الإلهية في قدرة الإنسان على التكيف مع الظروف من حوله، حتى يظل قادراً على أداء رسالته. فكل شعب يصوغ شخصيته بما يتناسب مع ظروفه الطبيعية والسياسية، وليست هذه الحقيقة حكراً على المسلمين وحدهم، بل هي سنة عامة.
فحين يعيش الإنسان في مجتمع هادئ جداً، فإنه يستثار أو يخاف من صوت رصاصة، لكن حين يستمع كل يوم إلى أصوات الرصاص، فيفترض أن هذا الرصاص لن يصيبه "على الأرجح" بحكم تأقلمه مع هذه الحالة.
الفلسطيني منذ نعومة أظافره يعرف عدوه الحقيقي، لما يعايشه يومياً من اضطهاد وسجن أو اعتقال، ويبدأ يعد العدة لمواجهته حتى ولو بأبسط الإمكانيات "كالحجارة مثلا" فهو يتربى على ذلك، يتوقع أسْره أو اغتياله في أي وقت، فالحياة عنده لها قيمة سامية، يقدم روحه فداءً لوطنه ومقدساته، يُستشهد أو يُعتقل دفاعا عن عرضه ودمه وماله ووطنه وحياته وعائلته وأرضه وحضارته ومقدساته وعقيدته، وهذا ما عايشه بوالده وإخوته وجيرانه وكل من حوله.
لذلك فإن مواجهة الشعب الفلسطيني للمحتل بالابتسام والسخرية، وتسمية موجات القصف بالحفلات، لا يعني أن هرمونات الخوف الطبيعية نزعت منه، إنما يعني أن إطاراً اجتماعياً جديداً تشكل، وأعيد فيه تحديد معايير ما هو مخيف ومقلق، وما هو ليس كذلك، للتكيف مع مستوى التوتر المعاش منذ سنوات طويلة.
الفلسطينيون يؤمنون ببساطة أن المحتل حتى وإن احتل أرضهم فهو لن يملكها أبداً، ويدركون أن فلسطين هي أم الشعب، والأم تعرف حملها جيداً، وفلسطين لن تقبلهم أولاداً لها مهما فعلوا، أو بكل بساطة أدرك الفلسطينيون بأن أصحاب الحق يتسمون بالشجاعة والقدرة على المواجهة، والثقة بالنفس.
صفة أخرى تميز الفلسطيني، وهي التعلق بالأرض والهوية، فهم يحبون أرضهم ولا يقبلون بتغيير حدودها أو احتلالها، كما أنهم يحافظون على هويتهم الفلسطينية ولا ينسون تاريخهم وثقافتهم، كما أنهم يحترمون رموزهم وقادتهم مهما اختلفت لديهم التركيبة الأيدولوجية، إلا أن رموزهم تبقى خالدة مهما مر الزمن وتعاقب.
وقد حذر محلل الشئون الفلسطينية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" آفي زخاروف من أن الجيل الجديد من الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة لا يخاف الموت ولا يعمل حساباً للتفوق العسكري الإسرائيلي.وقال زخاروف إنه وعلى الرغم من أن عملية جيش الاحتلال في جنين كانت ناجحة من الناحية العسكرية، إلا أنها تدلل للمرة الألف على حقيقة وجود آلاف الشبان الفلسطينيين الذين لم يعد يرهبهم الموت ولا يترددون في تعريض حياتهم للخطر.
ولفت إلى ما كتبه الشبان على جدران مقبرة مخيم جنين "احذروا الموت الطبيعي، لا تموتوا إلاّ تحت زخات الرصاص" وهي عبارة للأديب الفلسطيني "غسان كنفاني"، ويبدو أن الكثير من الفلسطينيون اتخذوها شعارًا للحياة أو بالأحرى للموت.وهي عبارة يتم تطبيقها بحذافيرها في المخيم، لافتاً إلى أن عوامل استمرار التصعيد قائمة بوجود المئات أو الآلاف من الشبان المستعدين للموت في سبيل الله.
وعدد الكاتب عدة صواعق لتفجير الأوضاع وعلى رأسها المساس بالمسجد الأقصى المبارك حيث تخشى الدوائر الأمنية الإسرائيلية من تفجر جديد للأوضاع وبشكل واسع وذلك بالإضافة لاشتداد الاحتكاكات والمواجهات بين المستوطنين والفلسطينيين.
وأضاف "صحيح أن عملية جنين نجحت من الناحية العسكرية، لكنها دللت على ظاهرة آخذة في التطور في الآونة الأخيرة وهي حقيقة عدم خشية المئات والآلاف من الشبان الفلسطينيين من الإصابة أو الموت خلال المواجهات مع الجيش".
لكن ليكون الصدق أوفى، لا شك في أن هناك شبابا مقاومين كثر ما زالوا يقبلون على الشهادة، وأن هناك أمهات عديدات يستقبلن نبأ استشهاد الابن بالزغاريد، ولكن الموت موجع وفيه غياب طويل، وشوق ووحشة، ولو ترك الشهيد نفسه ليتكلم لسمعناه بعد أن يفارقه جمع الأهل والأحبة، يقول: "لا تصدق زغاريدهن، وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا"، .
طالما أن فرص الحياة الحرة الكريمة أمام الفلسطينيين تتناقص عاماً تلو الآخر، فلن يبقى أمامهم سوى اللجوء إلى المواجهة المباشرة والتي مؤكداً فيها دمار وموت، كما يجري الآن على امتداد الخارطة الفلسطينية، ولكن حياة بكرامة أو موت بشرف، وهو الفن الذي يتقنه شعب فلسطين.