في لحظة الغضب الخارجة عن حدود المنطق، والهادمة لجدران الاحتمال، يتسرّب اليأس في صيغة تعميم عدمية بأنّ الخير مفقود في الناس، وأنّ العدل وهم، وأنّ إنصاف الضحية محض سراب.
الغضب يفعل أكثر من ذلك، لا سيما إن جاء مصحوباً بالأذى الذي يطاول النفس، ويعطل الروح عن أداء وظيفتها الأساسية: الأمل.
والغضب يطفىء نور العقل، ويورّث الهزيمة. لذلك فإنّ أمام المرء الغضوب خيارين؛ إما أن يبدّد هذا الغضب، وإما أن يصمت. والخيار الثاني أشدّ فتكاً، وأسرع الطرق إلى الهاوية والفناء.
إذا، لا بد أن يبحث المرء عن روافع تقف في وجه عاصفة الغضب، وأعني هنا الغضب العدمي الذي يسدّ كلّ نوافذ الفرَج.
في الحرب الدائرة في غزة، والذي يزداد عدّاد ضحاياها ارتفاعاً مع كل نقرة على "الكيبورد" الذي يصفّ هذه الحروف، لا ينفع الإحساس بأنّ العالم، كلّ العالم، تخلّى عن غزة وأهلها وأطفالهم. لأنّ الوقائع المتدحرجة تقول إنّ وعياً عالمياً متعدد الروافد آخذٌ في الهدير، ويشكل نهراً تزداد اندفاعته قوة يوماً بعد يوم، ويرفع صوته في وجه الموت الذي تكتبه إسرائيل بدباباتها وصواريخها وأسلحتها الفتّاكة والمحرّمة التي يجري تجريبها على أجساد الفلسطينيين.
الاحتجاج يملأ الساحات في بلاد العرب والعجم، لأنّ صوت الضمير الخفّاق بدأ يعلو، لا لأنّ أحداً طلب من تلك الجماهير أن تخرج إلى الشوارع تحت البرد ونزيف الأمطار ودرجات الحرارة الصفرية، بل لأنّ الحق الذي جهرت به وسائل الإعلام قد أيقظ الضمير الغافي، وما زال يوقظ الضمائر الأخرى التي صدّقت الرواية الإسرائيلية التي هيّجتها غرائز دول ومؤسسات، عبر "بروباغندا" مدفوعة الثمن، من أجل أن يصدق العالم أنّ إسرائيل واحة أمن وديمقراطية، وأنّ "الحيوانات البشرية" أرادت أن تنزع سكينتها وتبدّد هدوءها، وتفسد أفراحها بالسبت المبارك!
صدّق بعضهم هذا الأمر في البداية، لكنهم سرعان ما اكتشفوا الحقيقة الساطعة المحفورة بالدم والأشلاء المحترقة، والبيوت المهدمة، والمستشفيات المحتلة، والمدارس المقصوفة، والكنائس المنتهكة صلبانها، والمساجد المنكسة مآذنها، والمخابز المعجونة أرغفتها بالبارود.
لم يصدأ الوعي العالمي، كما ظنّ الغاضبون. الضمير الإنساني المعافى من أوهام السردية الإسرائيلية المفبركة والركيكة أدرك أنّ ما يجري في غزة هو إبادة جماعية وتطهير عرقي، وتدمير ممنهج لخنق الحياة، وجعل غزة 2023 نكبة جديدة، لأنّ ذلك هو الكفيل، برأي القتلة من قادة الكيان الصهيوني، بأن يحقق الاستقلال الإسرائيلي الجديد، وكأنّ الاستقلال الأول حقق غاياته، وأنجز وعوده، وجلب الأمن والهناء للمحتلين.
الوهم الإسرئيلي ينجز أكثر من هذا الهراء، لأنه يغمض العين عما يجري في غزة والضفة الغربية والمتمثل في أنّ أحفاد النازحين واللاجئين، الذين وثق التاريخ صورهم بالأبيض والأسود حاملين متاعهم القليل على ظهورهم المحنية، يستعيدون مشعل المقاومة، ويثأرون للظلم التاريخي الذي لحق بأجدادهم، ويُراد له أن يمتد إلى أبد الآبدين.
الحب ينتصر على "السيوف الحديدية"، وهو حب بكل اللغات يهتف به الناس في الشوارع والميادين، ويلهج به مسؤولون وفنانون وكتّاب ولاعبون رياضيون وأفراد وجماعات أرادت أن تنتسب إلى فضاء الحق والعدل، فخرجت من جحيم الشيطان الأخرس إلى جنة الأمل الصدّاح، وصنعت بهذا الخروج، بل الانشقاق، صدعاً كبيراً ومتنامياً في جدار الصمت والتواطؤ والخذلان.
على هذا الحب المتعاظم يراهن أطفال غزة، ومن أجل سلطة الإنصاف يشهقون بأشواقهم. أما الساسة المتشدقون بالأكاذيب، فسوف تطاردهم صرخات الأطفال ونواح النساء ويأس الذين حفرت الطائرت في صدورهم أنفاقاً عميقة من الرغبة في الانتقام الذي تتعدد وجوهه وتتشظى.
ولئن كان لهذه الحرب الهمجية أن تضع أوزارها، وتندحر الدبابات مهزومة، فليس الفضل في ذلك إلى الرئيس الأمريكي وحاشيته وأتباعه، بل إلى الصمود الأسطوري لأهل غزة أولاً، وللموجة العارمة من طوفان التضامن العالمي الذي أغرق في اندفاعته كلّ الذرائع المزيفة، وألقى بها في قاع الوادي..
وما أكثر الذاهبين إلى ذلك القاع والراقدين في عتمته الأبدية.
وما أسعد المعتصمين بحبل الحب.