منذ ثلاثة سنوات وفي مؤتمر البيئة العالمي تم الإعلان عن ولادة مشروع إقليمي لتبادل المياه والطاقة بين الأردن وأسرائيل برعاية أمريكية، وتم الإعلان عن توقيع مذكرة نوايا غير ملزمة بين الأطراف يتم من خلالها تزويد إسرائيل للأردن بالمياه مقابل انشاء محطات توليد الطاقة الشمسية في الأردن وتزويدها لإسرائيل وفق كميات وأسعار سيتم الاتفاق عليها بالمباحثات اللاحقة.

ودارت المباحثات لتحديد كميات المياه والطاقة، ومصادر المياه ومناطقها ونوعها وتكلفتها، حيث وصل الطرفان لمراحل متقدمة جدا، واضحى التوقيع على الاتفاقية حال موافقة إسرائيل على سعر بيع المتر المكعب الذي حدده الأردن والذي راوح الدولار وكان شهر تشرين الثاني هو الموعد لتوقيع الاتفاقية.

وشاء قدرها ان تكون هذا العام وسط الاعمال الوحشية التي ترتكبها إدارة نتنياهو في فلسطين، وأمام الموقف الأردني ورفضه لهذه الاعمال واعتداء الهمجية الصهيونية في إسرائيل وبشكل مباشر على المستشفى الميداني الأردني في غزة، فقد اتخذ الأردن موقفا متقدما وبخطوات مدروسة تعكس احكمة السياسة العميقة، وذلك في النظر بكل الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل ومن خلال مجلس الامة صاحب الصلاحية، وقبلها العمل السياسي وطرد السفير الإسرائيلي وسحب السفير الأردني، وتجميد التعامل مع إسرائيل بكل ما كان يجري من الاتفاقيات وخاصة المياه والطاقة تعبيرا عن رفض الأردن التعامل مع نظام سياسي يعشق القتل ويسعى نحو التطهير العرقي ولا يحترم أي اتفاق أو معاهدة ولا يأبه بالانسانية ولا بالرأي العام العالمي.

وبالرجوع لهذه الاتفاقية، فإن الموقف الأردني منها ومنذ البداية كان متحفظا على تنفيذها لان الأردن مدرك تماما أن وضع حاجات الوطن وخاصة البيئية بيد إسرائيل التي تثبت اليوم تلو اليوم عدم مصداقيتها واطماعها غير المتوقفة, امر يحتاج الى التريث والتبصر العميق.

وبناء على معطيات الواقع لا يجوز الانغماس كليا مع إسرائيل وخاصة في ملفي المياه والطاقة رغم كل المغريات التي تقدم، من حيث الكلف وبنفس الوقت الحاجة الملحة لكل قطرة ماء.

هذا المشروع من وجهة نظر بيئية واقتصادية مجد جدا كون الأردن سيحصل على كميات تكفيه لعشرة سنوات قادمة وبأسعار الكلفة وكذلك مواجهة العجز المائي الذي تحاول إسرائيل الارتكاز عليه في توريط الأردن كمقدمة للتحكم في سياسات الدولة وارضاخها للأطماع المشؤومة لإسرائيل وتنفيذ مخططاتها. هذا الاستغلال الإسرائيلي افشله الأردن واعلن عدم توقيعه لهذه الاتفاقية وذلك لأمور عدة:
أولها الفعل الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة والضفة الغربية وعدم تفريقه بين البشر والحجر والشجر.

وثانيا : عدم احترامها للمواثيق والمعاهدات وبالتالي القانون الدولي ومصلحة الشعوب وحقوقها، فهناك انتهاكات عديدة لهذه الافاقيات.

وثالثا: التوقيت الاسوأ الذي ارادت به إسرائيل احراج الدولة الأردنية والتشكيك في مواقفها، خاصة وأن الحراك الأردني حراك مؤثر، ومواقف تعري الادعاءات الاسرايلية وكذبتها الكبرى في الدفاع على النفس وشيطنة الفلسطينيين.

ورابعا: التشكيك في مواقف الأردن المعلنة والواضحة والمؤثرة امام الشعب الأردني والعربي والإسلامي والدولي، خاصة وأن هذا الموقف كان ولا زالت متقدمة وصادقة وعظيمة، وواضحة لا يساورها الشك.

وخامسا: التلاعب بالعلاقة بن الشعبين الأردني والفلسطيني لتحطيم تعاظم التلاحم الذي بدى واضحا وجليا وصادقا في ازمة الحرب على فلسطين وتفرد الأردن بكسر الحصار ومد المساعدات، وحمل رسالة القضية الفلسطينية وجهود وقف اطلاق النار التي بدأ العالم يدرك أهميتها

لكن السؤال الأهم: ماذا بعد، ولعل الجواب، سيكون بمزيد من الضغط على الأردن ومزيد من التشكيك بمواقفه، ومحاولات النيل منه؛ مما يترتب على ذلك، السلوك الوعي الواقعي والمنطقي والعقلاني لكل مواطن، والابتعاد عن القفز في الهواء والمساس باستقرار الوطن ووحدة شعبه، فمواجهة التحديات وتثبيت الموقف الأردني يحتاج الى الوحدة وتفويت الفرص على الذباب المتربص النيل من الوطن, وبنفس الوقت: بناء الاستراتيجية الوطنية التي تدعم الموقف الأردني وجهوده وتميزه شعبيا وسياسيا في مثل هذا الظرف الصعب والمؤلم والمصيري للعرب ومستقبلهم. والذي يتطلب صلابة الجبهة الأردنية الداخلية وتماسكها وتناغمها مع النظام السياسي وتفويت كل الفرص على الطوابير الخفية التي لا يهمها إلا ضرب الأردن والإساءة اليه وتحطيم مجاديفه التي صمدت وواجهت صفقة القرن وعرت الكثير في موقفها وسلوكها ودورها في الحرب على غزة.

هذا من جانب ومن الجانب الآخر: البدء بجدية صادقة باستراتيجية المياه والتركيز ومن الان على بدائل المصادر التي تصلنا من إسرائيل، وخاصة مشاريع التحلية والتصميم على تنفيذ مشروع الناقل الوطني ولو على مراحل وبشكل جزئي، نبدأها بتحلية كمياه نضخها عبر ناقل الديسي ثم وبشكل متواز نبني الخطوط الناقلة بكوادر وشركات اردنية، وبمشاركة القوات المسلحة، خاصة وأن تجربتنا بمشروع الديسي وتحلية المياه المالحة في أبو الزيغان والزرقاء والزارة ماعين وغيرها يمنحنا الخبرة في تنفيذ هذا المشروع. حيث سنقلل من الكلف، ونباشر في التنفيذ ونثبت السعر بدل تلك الارتفاعات الجنونية مع مرور الوقت.

إسرائيل والسياسة الصهيونية، والممارسات غير الإنسانية التي مارستها تبين وبلا أي شك أننا على موعد مع الصراع، الذي صنعته الأفكار الطامعة الصهيونية، وأن مخطط اخضاعنا في احتياجات الرئيسية بها مسألة لا بد من إنهائها، والاعتماد بذلك على ذاتنا، وأن التحمل سيصبح جزء من ثبات مواقفنا، والحفاظ على كرامتنا.

فلا اتفاقيات جديدة، ولا السكون على أي اتفاق جرى، ولا الرضوخ لتلك المخططات الخبيثة التي اعتقدنا في مرحلة ما أن عملية السلام حقيقة، حيث بينت التجارب أن الدولة العنصرية وأنظمتها الفاشية، لا علاقة لها بالسلام، ولا أمان فيما تعقده من اتفاقيات ومعاهدات خرقتها وتجاوزتها من زمن بعيد.