إذا كانت "الديمقراطية" التي عانت مماحكات سلطوية مديدة بكونها تشكل سياقات الوعي المأمول بين فئات الشعوب، فقد صارت المكان الآخر الذي امتلك أكثر من وجه في عالم تسود فيه القوة والجبروت الاقتصادي والعسكري، فانعكست بشكل جلي في سلوكيات الدول العظمى التي ارست قواعد ليست لها علاقة بالديمقراطية المأمولة، بل استبدلتها بأنساق جديدة على هيئة العولمة والتحكم بالعالم، مصطلح جديد يجري في مسارات تزيين الاستبداد وتجلياته المختلفة، وقد لمسنا صورة الاستبداد التي تتناقلها وسائل الاعلام في جرائم اقترفتها الصهيونية لم يكن لها مثيلا، فقبل أكثر من مئة عام أشار الكواكبي إلى خطورة الاستبداد وطبيعته التي تسري على المستضعفين كقيمة مقبولة للتحكم بالجموع، وقد دفع ثمن آرائه في الاستبداد حياته حيث مات مسموما، وأهمية ما أنجزه الكواكبي هو توصيف الاستبداد وجذوره التي ترتكز على الشرور، ونحن الآن في خضم استبداد يتفرع في مسارات عديدة يتكاثر ويتعاظم كورم سرطاني يأكل الأخضر واليابس في حياة الشعوب والدول على حد سواء.
فالعالم الآن هو نتيجة لإفرازات استبدادية تتعاظم مع مرور الوقت، أمام قيم الصمت العاجز عن مواجهته، فقد أصبح منظومة من المفاهيم المتداولة في الميديا التي أوصلتنا إلى قيم الاعتياد، اعتياد القتل والابادة والظلم كما لو أنه جزء من تاريخ الفعل اليومي للكائن، والذي تنطع له كثير من الإعلاميين عبر تسويغات بلهاء وشرعنة الفساد كمفهوم اجتماعي وسياسي، فنحن أمام استبداد عابر للعصور والحقب، حيث تعاضد الفساد والاستبداد ليخلق حالة من انتفاء الأمل وتكريس اليأس الذي صار يقتات عليه المواطن كل صباح، وكأن العرب يلتقون في مشترك تاريخي تحكمه المأساة.
والغريب أن الشعوب قد أصابها الوهم حول نهايات الاستبداد وزواله، ولم يدركوا أنه بذور لها خاصية التجدد والمقاومة في تنوعها ووجودها، وقد ساهمت الشعوب في تجديد الاستبداد عبر صناعة وثن السلطة لعبادته مثل إله صغير يقيم على الأرض.
والمفارقة أن الشعوب ما زالت تحلم وتمارس الوهم في عودة الامل على موائد الدول، تماما كما هو في رواية مارسيل بروست في "البحث عن الزمن المفقود".
وما جعل من الاستبداد شجرة يانعة لا تموت هو الفعل التراكمي لمجموعة معقدة ومركبة من الأسباب والظروف والشروط الذي يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، والداخلي والخارجي، والاقتصادي والثقافي. فهو نتاج مركب من القوى والبواعث المختلفة والمتفاوتة في درجات تأثيرها، وفي اختبار الاستبداد وبديله "الديمقراطية" في عالمنا العربي، لا بد أن يتجاوز التقولب في النموذج المطلق، وممارسة علم الحاكم وجهل المحكوم كقناع لتزيين الاستبداد، أمام بعض المحسنات التي تنتمي من بعيد إلى ديمقراطية صورية تنتظم في مصطلحات لها علاقة بحقوق الانسان والمرتكزة في جذرها على الاستبداد، ونحن نحتاج إلى نوع من الاستدراك بما يخص قضية الاستبداد في عالمنا العربي وعدم اعفائه من تطور الحريات ومتطلباتها المعاصرة.
بعبارة أخرى، نحن كأمة نعيش في مسارات ملتبسة، تصدمنا فيه "السياسة"، وما زلنا نرنو نحو المقدس بمعناه الشمولي ونمكث في نمطية تعيدنا إلى البدايات الصفرية، وهل نحن نستطيع تجاوز الفكر المسموح، وطرح قضايا تتجاوز المسلمات التي عرفناها وما زالت تسيل في مذكراتنا كصيغة تكرارية باهتة.
وإذا نظرنا إلى محركات التاريخ، فإن السلطة الاستبدادية بصفة عامة تشكل القاعدة، والتحول عن السلطة إلى أشكال قريبة من الديمقراطية هي الاستثناء. وهذا يشير إلى أن النظم الأتوقراطية المستبدة كانت هي السائدة من الصين إلى أميركا اللاتينية حتى أوروبا، بحيث كانت هي القاعدة، وبالتالي التحولات الديمقراطية في غالب الأمر تأتي كحالة استثنائية ليست أصيلة في جذور السلطة، فالواقع العربي الآن يظهر بمظهر الحداثي مع أنه ينطوي على تناقضات معقدة بما يخص حرية المواطن، لذلك نقف أمام إضاعة فرص التغيير المحمود وتراجع الفعل التنويري والنهضة والإصلاح والتحديث.
وهنا أذكر ما ذهب اليه المفكر برهان غليون في كتابه "أزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي" بقوله: "إن المحصلة النهائية للاستبداد المزمن وإعادة إنتاجه هي مجتمعات تعاني الركود والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتفاوت الخطير في توزيع الثروة الوطنية وفجوة تتسع يوميا بين الأغنياء والفقراء، وفقرا يتنامى يوما بعد يوم، ومزيدا من الجماهير المهمشة التي تفقد تدريجيا حسها الوطني والسياسي. وفي إطار ذلك كله، فإن السمة الوحيدة الباقية للمجتمع هي أنه مجتمع يفقد تدريجيا السيطرة على شروط بقائه واستمراره".
ويؤكد ذلك عبد الرحمن الكواكبي بقوله: "الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع".
فالاستبداد أينما حل، ينشر الفقرَ والذل والضعف وعدم الأمان وسهم في تغول القوي على الضعيف، فالقوى الكبرى تستطيع عن طريق دعمها للمستبد أن تنهب ثروات الشعوب التي تكتوي بنار الغلاء والضرائب والفساد، ومن أخطر أنواع الاستبداد هو ذلك الذي ينسرب في عملية التنشئة الاجتماعية من جيل لآخر، حيث لا يصبح مجرد سلوك عرضي ومؤقت، وإنما ينتظم في سياقات سوسيولوجية تنتشر في الطبقات التحتية للتفاعلات الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة وغيرها من مؤسسات التنشئة الاجتماعية؛ والذي يمكنه من البقاء كأسلوب حياة مستدام وقدرة عالية لتوليد نفسه عبر الانتقال من جيل لآخر.