عندما تقع الواقعة، تصبح الأصوات الفردية المعاكسة للتيار مذاقها، مذاقها الحر العذب بالمعنى الأخلاقي، ومذاقات تافهة، منافقة، أو متحذلقة، ممجوجة، وتدعو إلى السخرية، وتعالت أصوات فردية فارقة في الحرب على غزة، والحرب مفرزة مواقف، ومفترق طرق لنهج السمو، أو منزلق سقوط. أو صمت مريب، وغزة امتحان صعب، امتحان للمواقف، والضمائر، والأخلاق، والقيم، والقلوب، وأنماط التفكير، والصلابة، والليونة، والمهابة، والمهانة، وأشياء أخرى.
بولا يعقوبيان، النائب في البرلمان اللبناني، والتي هي ضد الأحزاب الدينية عموماً، بمعنى أنها ضد تسييس الدين، وإقحام السمو الإلهي في معارك يرى كل طرف فيها، أنه يحارب باسم الله، وبولا كما يعلم الجميع مسيحية أرمينية الجذور، استخدمت ضميرها للإجابة على سؤال صعب لواحدة مثلها: هل تعدين "أبو عبيدة" إرهابي أم بطلاً؟ لم تتردد بولا لحظة في القول: إنه بطل، وعندما سئلت عن ذلك قالت: إذا خُلقتَ في غزة، ماذا سيكون طموحك في الحياة، أن تصبح مهندساً، أم طبيباً، أم عالم فلك، أم سيكون طموحك أن يكون لديك شيئاً من الكرامة، وما الأفق الذي لدى الإنسان في غزة، وعندما تصنف البشر، يجب أن تعرف أولاً من أين أتوا، وكيف عاشوا، وما هي طبيعة حياتهم. صوت بولا هنا، صوت مختلف إذا ما وضعنا في الحسبان من أين أتت بولا، وقد أتت من جذور شعب عانى الظلم والقتل والتهجير، وليس غريباً أن تصف الذي يدافع عن وطنه بأنه بطل.
ذلك صوت مختلف، وصوت ذلك الشيخ الذي يدعو "أبو عبيدة" في خضم الحرب على المعتدي، للجهاد بالسُّنن، صوت مختلف أيضاً، يستشهد بما جاء به ابن القيم، أن جهاد السُّنن أفضل من جهاد السيوف، والشيخ الذي لا أعرف من مَشيَخه، لا يشبه بولا، لا في الشكل، ولا وفي الفكر، ولا في الرأي، ولا في الوجه، يطلب من "أبو عبيدة" أن يلقي السلاح، ويعلم أطفال غزة القرآن والسنة.
وصوت يأتي من الولايات المتحدة لضابط سابق في الجيش الأميركي، يقف إلى جانب المقاومة في غزة، ويقول أنني كأميركي، سأقف للدفاع عن أرضي لو غزاها الغزاة، وذلك صوت مختلف، وصوت آخر يأتي من الولايات المتحدة أيضاً لنائب ديمقراطي سابق هو "جيم موران"، يقول أنه لو فقد أحد أبنائه في قصف إسرائيلي على غزة، لتحوّل هو شخصياً، إلى إرهابي، ويقصد أنه سيحمل السلاح، وسينتقم من قتلة ولده.
صوت وزيرة داخلية بريطانيا المهاجرة التي تقف ضد اللاجئين، صوت مختلف، وصوت الوزير الإسرائيلي الذي يدعو إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة صوت مختلف أيضاً، كما صوت وزير مالية إسرائيل "بتسلئيل سموتريتش" الذي يؤيد قراراً للكنيست الإسرائيلي بترحيل طوعي للفلسطينيين إلى دول عربية أخرى، كأفضل حل إنساني لهم ولدولة الاحتلال، والتهجير الطوعي بفهم إسرائيل، ليس بقتل الفلسطيني بالسلاح والبارود، ولكن بحرمانه من الشعور بالأمن، وإذلاله، وتجويعه، وتعطيشه، وإفقاده بيته، وكل مقومات الحياة، وتركه في العراء، وفي برد الشتاء، حتى يترك الأرض ويرحل.
الأصوات التي تعلو في شوارع مدن العالم: "تحيا فلسطين"، أصوات حرة، النساء اللواتي يجلسن في شوارع مدن الغرب وهن يحملن أكفان صورية لأطفال قتلى، أصواتهن يسجلها التاريخ لهن، الشعوب التي خرجت إلى الشوارع للمطالبة بوقف الحرب، وكل حر أو حرة قالوا كلمة حق في وجه القاتل، أو من يساند القاتل، كلها أصوات وإيقاعات تقارع طبول الحرب، وتدق نواقيس الحق، وتعيد النواميس إلى أصحابها، وأما الفلسطيني، فلن يرحل، وسيفشل كل أهداف إسرائيل، وسيخرج الجيش المعتدي من أرض غزة مكسور اليد أو الرجل أو الخاطر.