رؤية فكرية ثقافية "1"
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
13-11-2023 11:40 AM
تشكلت المجتمعات عبر التاريخ على عاملين الاول الية انتاج (الاقتصاد) والثاني الية تفكير (الهوية الثقافية)، الهوية الثقافية القائمة على توزيع الخير ورفاهية الجميع قادت الاقتصاد الى ازدهار المجتمعات وامنها الغذائي وما تبع ذلك من بناء ورفاهية ورقي وحضارة، اما عندما سمحت المجتمعات للاقتصاد (المال و المادية) بقيادة المجتمع بعيدا عن القيم الثقافية النبيلة ظهر الصراع والرغبة بالاستئثار والسيطرة و اقصاء الاخرين وتبع ذلك الطبقية والظلم والتي ادت دوما الى الانهيار البطيء للحضارة والتفكك الاجتماعي برغم مظاهر القوة في مرحلة ما.
الثقافة قوة ناعمة تحتاج لبيئة حاضنة وقابلة للعطاء ومشاركة الاخر وهي برأيي طبع اصيل في نخب تشكل نسبة قليلة من الجموع ولكنها هشة في ظاهرها وتنكسر مؤقتا امام القوة الخشنة لتنبعث من جديد كفكر ونموذج حياة في بيئة اخرى تجذب لها الاتباع لتشكل قوة جديدة صاعدة.
بما ان التاريخ مرآة الحاضر وجذر المستقبل فإن دورته تتكرر ولكن في لحظة ما يتجاهل اصحاب القوة تلك الدروس.
لا يمكن لاي ثقافة تدعي الكمال والاستئثار بالحقيقة الا رفض الاخر وخصوصية ثقافته فتقع معه في صدام تظهر فيه قوة الضعف وضعف القوة.
الانسان تميز بالارادة والتي هي قوة داخلية تؤهله لان ينتصر على التحديات و القلق و الخوف و الرغبات ان امتلك القيم الاساسية النبيلة من العطاء و الشجاعة و الصمود و المواجهة و التعافي من الانكسار و التعلم من التجارب الفاشلة فهو ينتصر يومياً في سلسلة لا تنتهي من الصراعات مع رغباته و شهواته و ميله للعدوانية و جنوحه للسلبية، انتصارات لا يلحظها و لا يحتفل بها لانها اصبحت روتين و لكن ان دقق فيها سيجد تلك القوة الكامنة في ذاته التي تجعله محصن نفسيا و ان تجاهلها سيتحول الى فرد مهزوم قلق خائف متردد.
اليوم يواجه الشباب تحديات لم تواجهها الأجيال السابقة بنمط حياتها البسيط و القانع، ولذلك فإن الشباب اليوم بحاجة لتنمية الهوية الثقافية والتدرب على مهارة الارادة اكثر مما احتاجته الأجيال السابقة فالحياة المادية المعاصرة اضعفت السند الاجتماعي و تركت الشاب وحيدا في مواجهة حاضره و مستقبله، بل ان الادهى ان ظهور نماذج للثراء السريع والشهرة بتغييب القيم والكرامة وضع الشباب في حيرة بين فقر المال وغنى النفس من جهة وبين غنى المال وفقر الاعتزاز والكرامة واحترام الذات من جهة اخرى ولا بد من هوية ثقافية فكرية للشباب ليكون قادرا على سلوك الطريق الصعب ليكون انسانا افضل راضي بقيمه و محافظا على احترامه لذاته و ثقته بنفسه و الاستمتاع بالطريق الى الانجاز بدل الغرق في براثن الاستسلام لمغريات شهوة المال و الشهرة على حساب احترامه لذاته الذي سيدفعه الى الشعور بالخواء و القلق و الاستنزاف العاطفي و الذهني ليصل لحالة ان يأكل دماغه بالتفكير الزائد جسده و صحته.
المسؤول والعامل بالسياسة لا بد ان تكون لدية هوية سياسية واضحة المعالم مبنية على اساس ثقافي فكري وهذا ما جعل اليسار و اليمين تشكل دوما أرقا للسلطة السياسية، حيث ان المحسوبين على السلطة يبنى ولائهم للاوطان والقيادة على العاطفة والمصالح و يتم إقصاء او تهميش من يقوم ولائهم على فكر وقيم ثقافية قائمة على ان القيادة رمز وحدة الوطن وهي جزء اصيل من شرعيته و قوته الناعمة بين الدول المحيطة والبعيدة وبالتالي فإن التفكير بالاصلاح السياسي والاقتصادي و الاجتماعي لا يجوز ان يصدم او يعلو على وحدة الاوطان و رمزية قيادتها لان البديل تشظي الوطن الى هويات فرعية متناحرة ستجد من يدعمها من الخارج لخدمة مصالحه و ليس مصالحها او مصالح أوطانها واذا تفتت الوطن وانتشرت فيه الفرقة والخلاف فإن الاصلاح حينها ليس له معنى لذلك لا بد للهوية السياسية للمنتمين لوطنهم الموالين لقيادتهم ان تكون واضحة المعالم مبنية على قيم فكرية ثقافية لان بقائها معتمدة فقط على العاطفة و المصالح سيجعل أصحابها يتنقلون بين التأييد و المعارضة حسب تقديمهم او اقصائهم عن مواقع المسؤولية، لذلك أجد أن أحد الاخطاء في الأقطار العربية بما فيها الاردن عدم وجود هوية سياسية واضحة المعالم عميقة الجذور الثقافية في الموالين والمنتمين.
هنا لا بد أن أذكر ان الهوية الوطنية ظهرت بعد الهويتين الدينية والقومية لذلك نجد أن تلك الهوية تضعف بقوة عند الاحداث الكبرى حيث انها لم تتجذر فكريا و ثقافيا كهوية أصيلة، بل ان بعض الهويات الفرعية مثل القبلية والمناطقية تعلو عليها في المواقف الصعبة.
لذلك لا بد أن يتم تجذير الهوية الوطنية على اساس ثقافي فكري في جيل الشباب حتى لا يشعر بالضياع و الهزيمة النفسية امام الهويات الدينية و القومية و الهويات الفرعية في الظروف التي يحتاج فيها الوطن جبهته الداخلية المؤمنة بهويته الوطنية بشكل حقيقي.