الثوابت الوطنية والاستراتيجية الأردنية في قمة الرياض
سامح المحاريق
12-11-2023 12:37 AM
تكاثف الظهور الدبلوماسي الأردني في الأسابيع الأخيرة واشتبك على المستوى العالمي في إطار حالة الافتراق والاضطراب حول العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، ووصلت لهجة الخطاب الأردني إلى مستويات غير مسبوقة وإلى حدود ربما اعتبرها البعض غير مأمونة، إلا أن الخطاب الحكومي يبقى في الأردن ومثل أي بلد آخر مرحليا وتكتيكياً، أما الثابت والاستراتيجي فطبيعة التركيب السياسي والدستوري تجعله مرتبطاً بالخطاب الملكي، وعندما يحمل الخطاب الملكي موضوعاً ويتبناه فذلك يرفع مرتبة الموضوع إلى ما يتعلق بالجانب الوجودي، ويصبح بالتالي مرتبطاً بالدولة في كليتها وليس منحصراً في أي من مفرداتها أو مكوناتها.
الموضوع الفلسطيني ليس سياسة اقتصادية يمكن أن تميل إلى السوق المفتوح أو الممارسات الحمائية، وليست تفاصيل ترتيبات حزبية تسعى إلى طيف واسع أو إلى تطبيق نموذج الحزبين، ولذلك كان طبيعياً أن يكون هناك ترقب للخطاب الملكي في قمة الرياض العربية الإسلامية.
الخطاب هو الثالث خلال شهرين، والخطابات جميعها مرتبطة بالأزمة في قطاع غزة مع أن خطاب الأمم المتحدة كان سابقاً على السابع من أكتوبر والمرحلة التي دشنها، فأتى ليكون تحذيراً أخيراً وجده كثيرون ممن ينظرون إلى التاريخ بصورة مبتسرة ويتجاهلون المقدمات المعقدة ليصلوا إلى نتائج مريحة، خطاباً منتمياً إلى الماضي واعتبروا الملك متشائماً أو كما حاول اليمين الإسرائيلي تصويره شخصاً غير متعاون ومسكوناً بالتاريخ ومحملاً بتراكماته، وكأن الخصوم في اليمين الإسرائيلي ممن أنتجتهم الأزمة والصدفة هم من يمكنهم بناء المنطقة وفقاً لأهوائهم وتصوراتهم القاصرة وثقافتهم الفقيرة.
أتى خطاب الرياض مختصراً وواضحاً ومؤسساً على مكتسبات الخطاب الثاني في قمة القاهرة والذي أتى بين جولتين أوربيتين سعتا لتغيير المفاهيم وإعادة موضعتها، وتبدى ذلك في تحولات فرنسية واضحة وبعد زيارة بروكسل أتت تحولات أخرى ومنها بداية الحديث بمصطلح جرائم الحرب الذي كانت الدبلوماسية الأردنية أول وأوضح من قام بتوظيفه، بغض النظر عن الاستخدام الإعلامي الذي لا يعني خطوة عملية يمكن البناء عليها في فضاءات العلاقات الدولية.
في مواجهة المحاولة الإسرائيلية المحمومة لتصوير عدوانها على غزة بوصفه رداً للفعل على الوقائع الساخنة ليوم السابع من أكتوبر أتى خطاب الملك ليبين المدى الأوسع للصراع في تأكيد ضروري لتفكيك ما تدفعه إسرائيل ليكون أساساً شرعياً لعدوانها واضعاً الصراع في سياقه التاريخي الذي لم يبدأ بالأمس كما وصفه الملك، مشيراً إلى عقلية القلعة المتواصلة لأكثر من سبعة عقود مورست خلالها شتى الاعتداءات على المقدسات والحقوق، وكان غالبية ضحاياها من المدنيين الأبرياء.
يعيد الملك التشديد على حل الدولتين الذي أخذت تتبناه الولايات المتحدة وتحاول أن تجعله الخيار المقبول بعد انتهاء العدوان، ولكن الملك يستبق محاولات التلفيق وإعادة إنتاج مشاريع رفضت سابقاً مثل صفقة القرن، فالدولة الفلسطينية من المنظور الملكي الذي يعبر عن الثابت والاستراتيجي أردنياً يجب أ ن تكون نتاجاً لإنصاف الفلسطينيين وضمان حقوقهم في الكرامة وتقرير المصير وقيام دولتهم المستقلة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
هذه ثوابت من الناحية الوطنية والالتزام القومي بل وهي جزء من العقد الاجتماعي في الأردن، وثوابت استراتيجية لأن أية حلول تحاول الالتفاف على هذه الشروط والتذاكي والتلفيق جميعها لن تكون حلولاً قابلة للاستدامة وستدفع المنطقة كلها إلى مزيد من التأزم ولأثمان باهظة ستدفع مستقبلاً.
عن الأردن المتسامح دينياً والمعتدل يرفض الملك أي محاولة مغرضة لتغطية الجرائم الإسرائيلية في غزة تحت الصراع بين الأديان، مؤكداً أن الوحشية وفظاعة الممارسات وخارج أي سياق ستكون سبباً للتطرف والكراهية والمزيد من المآسي.
هذه ثوابت الأردن وطنياً واستراتيجياً من غير أي هامش للتأويل، والأردن في الشأن للفلسطيني ليس لاعباً أو متابعاً ولكنه طرف أصيل يعرف ما الذي يريده الفلسطينيون والحد الأدنى لما يستحقونه من أجل المشاركة في مستقبل أفضل للمنطقة ككل.
"الرأي"