طوفان الأقصى أفشل مخططاتهم
د. محمد خالد العزام
11-11-2023 05:45 PM
إن ما نشهده الآن يشكل بجزء منه ما يرتبط بالتحولات الجارية في محاولات ابتعاد العالم عن النظام الدولي أحادي القطب. فقد أصبحت أسس معالم هذا النظام متعدد الأقطاب واضحة على نحو متزايد اليوم، مع وجود لاعبين رئيسيين بما في ذلك روسيا والصين و العالم العربي والإسلامي والهند ومناطق من أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وتمثل هذه الكيانات حضارات قديمة متميزة، والعديد من دولها متواجد ضمن عضوية مجموعة البريكس بعد أن توسعت هذه المجموعة لتشمل دولًا مهمة من العالم العربي والإسلامي .
ويؤكد هذا التوسع على النفوذ المتنامي للولوج الى النظام العالمي متعدد الأقطاب، في حين يشير ايضا إلى ضعف الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي تسعى بكل قواها مع الغرب من اجل الحفاظ على هيمنة أحادية القطب وفي البقاء بطليعة القيادة العالمية، لذلك فهي عازمة على الحفاظ على هيمنتها في جميع المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإيديولوجية.
إن هذا السعي المستمر نحو محاولات الابقاء على الأحادية القطبية يشكل التناقض المركزي في عصرنا الذي يتسم بالصراع المتزايد بين الأحادية القطبية والتعددية القطبية الأمر الذي بات ينعكس في مضمون صراعات وحروب جارية أو في بؤر نزاعات.
إن إصرار الولايات المتحدة جعل الشرق الأوسط منطقة نفوذ حصري لها، أمر قد بدأ بالانتهاء، فقد فقدت المصداقية. وقد بدأ النفوذ الروسي والصيني اَخد بالتموضع الثابت دون ضجيج بمنطقتنا لاعتبارات عديدة وبأشكال متنوعة ، وذلك في أوقات صعبة تمر بها أوروبا إقتصاديا نتيجة تبعيتها للمواقف الأميركية حول أوكرانيا وروسيا والصين وحتى حول ما يجري بأفريقيا.
وفي هذا السياق فمن الضروري دراسة الصراعات والتطورات الرئيسة في السياسة العالمية، وأبرزها الجهود الرامية إلى تقويض دور روسيا والصين في حين هم يعيدون تأكيد سيادتهم ووجودهم كقطبين متعاونين . ويساعد هذا الفهم في توضيح الصراع المستمر في أوكرانيا ومناطق أخرى من العالم كما والعدوان الوحشي وحرب الإبادة الجماعية ومشروع الترحيل القسري بحق الشعب الفلسطيني وتصعيد الأمور كما وامتدادات وتداعيات ذلك على المنطقة بأسرها، خاصة مع ما تخطط له الولايات المتحدة تجاه لبنان والعراق وسوريا من خلال هذا التحشيد العسكري في البحرين المتوسط والأحمر ووجود حشودات عسكرية إسرائيلية في الجبهة الشمالية من جهة اخرى، وإصرارها على أن تحقق إسرائيل نصرا لما يشكله ذلك من أهمية لاستمرار هيمنتها .
إن دعم العالم الغربي لكل من النظام في أوكرانيا الذي يسعى لأن يكون جزءا من الغرب الثقافي والناتو ، كما ودولة الاحتلال الاسرائيلي مدفوع باجزاء منه بالصراع بين القيم الحضارية والثقافية للشرق الأوسط التي تشكل فلسطين جزء منه ، والغرب الذي تشكل اسرائيل جزءا منه لاعتبارات عدة تريدها هي ويريدها الغرب لها لتبقى هي رأس حربة ذلك المشروع الاستيطاني لهم بمنطقتنا وفق أسباب نشأتها واستمرارها، وكخط دفاع اولي عن الغرب ، كما وبالرغبة في منع روسيا من الظهور مرة أخرى كلاعب عالمي مستقل إلى جانب الدور الصيني والتكتلات الإقتصادية السياسية الناشئة بالعالم بتوافقهما نتيحة إدراك روسيا بأنها لا تستطيع أن تكون أحد قطبين بالعالم فقط.
ولذلك، فقد دعم الغرب بقوة انقلاب عام 2014 في كييف، وقدم مساعدات عسكرية واسعة النطاق لأوكرانيا، وعزز نشر أيديولوجية النازيين الجدد داخل البلاد، واستفز روسيا ودفعها إلى بدء عملية عسكرية غير عادية.
وتشير وقائع العدوان إلاسرائيلي على غزة إلى شيئ مشابه، حيث ترتبط مسيرة الجرائم بالقطاع كما في القدس والضفة الغربية والمدن والقرى الفلسطينية داخل إسرائيل نفسها، بهذه القضية من الصراع. حيث ساهمت الولايات المتحدة بكافة أشكال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي في حمايتها من اجل استدامة الاحتلال الاستيطاني وتفوقه العسكري بالمنطقة وممارسة أشكال الابرتهايد، كما وبالمساهمة في صعود اليمين الصهيوني الديني في اسرائيل من جهة واضعاف دور منظمة التحرير ومنع إقامة الدولة الفلسطينية من خلال الحديث المنافق عن حل الدولتين دون ايضاح شكل الحل وحدوده من جهة أخرى من خلال ادارة الأزمة فقط لصالح تلك الأهداف .
بعد ٧٥ عاما من القهر المستمر ووجود ابناء غزة بسجن مفتوح، لم يكن من الممكن القبول باستدامة ذلك واستمرار تصعيد البطش ضد الأسرى وتهويد القدس وتوسيع الاستيطان. حيث شنت إسرائيل هجوما لم نشهد له مثيل من أضرار بالحرب العالمية الثانية من حيث النسبة والتناسب للجغرافيا والديموغرافيا على قطاع غزة ، كما واتساع اعمال القتل بالضفة الغربية التي وصلت إلى إعدام ١٤ شهيدا في جنين لوحدها في يوم واحد.
لقد كان ذلك تعبيرا جديدا بأن إسرائيل كما هي دائما بفضل حصانتها من الغرب ووكيلاً له بالمنطقة تتصرف خارج إطار الأساليب الدولية والقانونية والإنسانية المقبولة لحل الصراعات السياسية.
فإسرائيل، مثلها في ذلك مثل النظام الانقلابي بأوكرانيا، لا تعدو أن تكون مجرد أداة للهيمنة الغربية المتعجرفة والقاسية، فهي لا تخجل من الأعمال الإجرامية أو الخطابات الفاشية والأفعال العنصرية التي باتت حكومة إسرائيل بل والمعارضة فيها تتسم بها الآن.
ومع ذلك ، فإن جذر المشكلة لا يكمن في إسرائيل نفسها، بل في دورها كأداة جيوسياسية في إطار عالم أحادي القطب وفق استمرار استخدامها للسياسات الاستعمارية التي تقوم على أساليب التطهير العرقي والإبادة والترحيل ونفي الاَخر، ومحاولات تمرير مصالح السياسة الخارجية وبشكل خاص نموذج الشرق الأوسط الجديد.
لقد أدى ذلك اليوم في ٧ اكتوبر والذي لن يكون ما بعده كما قبله، إلى مواجهة أوسع بين الغرب والعالم العربي والإسلامي، وتنبع هذه المواجهة من ما يُنظر إليه على أنه دعم غير مشروط وأحادي الجانب لإسرائيل على الرغم من الطبيعة الواضحة للجرائم المرتكبة ضد ابناء الشعب الفلسطيني في غزة وما يجري بالضفة الغربية الآن من تصعيد خطير وفق رؤية الحسم المبكر للصهيونية ذات البعد التوراتي المزعوم ، الأمر الذي انعكس بالخلافات العربية مع بلينكن ورفض العديد من طروحاته .
وأصبحت وحدة العالم العربي والإسلامي النسبية والممكنة لا يمكن تجاهلها، حيث تعمل القضية الفلسطينية كقوة موحدة تجمع الجميع من تلك الدول برغم من خلافاتها في قضايا أخرى، حيث ان الشعب الفلسطيني في غزة والقدس والضفة الغربية ومناطق فلسطين التاريخية ينضمون إلى جهد جماعي اليوم موحدين لحماية وجودهم وكرامتهم والدفاع المشروع عن أنفسهم بكافة أشكال المقاومة، بالرغم من انه وخلال العقود الأخيرة ، نجحت الولايات المتحدة في منع العرب والمسلمين من التوحد حول القضية الفلسطينية وتشجيعهم على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لكن مثل هذه المحاولات لم تعد ناجحة، وقد أثبتت كل هذه الجهود عدم جدواها في الأسابيع الأخيرة مع استمرار الدعم المطلق لإسرائيل.
إن المذبحة والابادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ترغم العالم العربي والإسلامي على تنحية خلافاته الداخلية جانباً والتفكير في المواجهة المباشرة مع الغرب.
ومن أجل التصدي بفعالية لأولئك الذين يسعون جاهدين للحفاظ على العالم الأحادي القطب والهيمنة الغربية، فمن الأهمية بمكان أن نفهم جوهر استراتيجيتهم. وبالتسلح بهذا الفهم، يمكننا أن نبني بوعي نموذجا بديلا لمواجهة هذه الأجندة، والمضي قدما بثقة نحو انهاء العدوان الهمجي وانتصار الشعب الفلسطيني من خلال وحدة كل مكوناته واساليب كفاحه.
لذا لا بد من توفير الحماية لكافة ابناء الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقه الاصيل في النضال ضد العدوان والاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري وصولا لعودة اللاجئين وفق القرار "١٩٤" وانهاء الاحتلال الاستيطاني نحو إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة والمتواصلة وعاصمتها القدس، وهو مرتكز البرنامج السياسي الذي لا يعترض عليه أحد اليوموبعد ذلك أو بالتوازي ، هنالك ضرورة للعمل السياسي الدبلوماسي لتحالفات مع الدول الصديقة وشعوبها نحو الحفاظ على عودة الصدارة للمشهد والقضية الفلسطينية أمام الرأي العام العالمي ، واستثمار المظاهرات التضامنية والمنددة بالاحتلال التي أصبحت يومية في كل مدن العالم حتى بالولايات المتحدة وبريطانيا من اجل الضغط على حكومات الغرب بالابتعاد عن تبرير جرائم الاحتلال والتوقف عن النفاق والانحياز السياسي .
اننا نحتاج اليوم إلى أكثر من المظاهرات في شوارع العالم التي باتت تؤثر على المواقف الأوروبية الرسمية وتراجعها النسبي، لكنه غير كاف. ففلسطين تحتاج الآن إلى وقف جريمة الحرب الجارية دون مسميات جديدة ،... فلسطين تحتاج إلى حلول سياسية تفضي إلى انهاء الاحتلال والحرية والاستقلال الوطني. ومن ثم العمل مع أصدقاء شعوبنا العربية على الاسراع بالوصول الى عالم متعدد الأقطاب يكون اكثر عدالة للشعوب وحرياتها وحقوقها بتقرير المصير ويرى في قضية الشعب الفلسطيني الحق والعدالة والبعد الإنساني.