على تراب فلسطين تحطمت مملكة المغول وهُزم التتار، بعد أن تعاقب أبناء هولاكو الثلاثة على قيادة الجيش ما بين حلب وعين جالوت، واليوم يعود هولاكو العصر ليقرأ على إمبراطوريته آخر التراتيل التوراتية في غزة هاشم، وليس ببعيد عن عين جالوت حيث لقاء الذهاب، يلتقي الجمع اليوم في سهل بيسان، في مرحلة الإياب، أما قطز وبيبرس اليوم هما الضيف والسنوار، وثلة يمثلون آخر من تبقى من المجاهدين على هذا الكوكب، يواجهون غدر الصهاينة وتكالب الأمم الغربية، معتمدين سياسة الترهيب بقتل النساء والأطفال والمدنيين العزل، ويدسون ما تبقى من أجسادهم المقطعة تحت ركام البيوت.
الكثير من المراقبين والسياسيين يتوقعون زوال دولة الكيان الغاصب وانهيارها، لكنهم يترقبون من أين سيبدأ السقوط؟ فبحسب كل المؤشرات يقودهم مصيرهم للفظ آخر أنفاس هيبتهم وعنفوانهم في التربة العربية وعلى يد "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا".
بعد السابع من أكتوبر، لم يعد هناك ما يخاف عليه الفلسطينيون، فرجالهم ونساؤهم وأطفالهم جميعًا أصبحوا يتزاحمون على أبواب الشهادة، ويتسابقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولهذا لن يتراجعوا أو يبحثوا عن أبواب للهروب من الجحيم الذي صنعه الصهاينة شمالاً أو جنوباً بفضل ترسانة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، فالجوار العربي باستثناء الأردن لم يبذل الجهد المتوقع لإدخال المساعدات عبر المنافذ المؤدية إلى فلسطين خشيةً من "تصفية القضية الفلسطينية" على حد قولهم.
إيران التي تدعي بأنها منحت الأرضية لبناء ما بات يعرف بمحور المقاومة في الشرق الأوسط وعملت على إزعاج الصهاينة والولايات المتحدة الأمريكية، تتريث في الدخول في صراع مباشر مع العدو الافتراضي، فبعد سقوط العراق استلمت الجمهورية الإيرانية المشهد من منطلق "غاب القط إلعب يا فار"، وعقب دمية داعش التي صنعها الغرب "على أغلب الظن" وصل النفوذ الإيراني إلى سوريا، لكنها لم تتدخل في غزة بشكل مباشر، لانشغالها بالساحة السورية.
على الجانب الآخر، تراقب الصين وروسيا المشهد من على مدرجات الدرجة الثالثة، مع بعض الشعارات والتصريحات التي تغذي الصراع، ولا يمنع من التعاطف اللفظي مع فلسطين، فكلتا الدولتين تتمنى زوال الإمبراطورية الأمريكية، لكنها تتجنب المواجهة المباشرة. بينما يحملق فلاديمير بوتن من موسكو وهو يُدير صراعاً لم يستطع إنهائه إلى الآن مع أوكرانيا، في حين يفكر شي جين بينغ بهدوء، وكلاهما يشاهد هذا المستنقع الذي وقعت فيه أمريكا، ويعلمان أن العرب إذا اقترنوا بالإسلام تصعب هزيمتهم.
لا تشبه هذه الحرب الحروب السابقة على القطاع، بل تبدو أكثر رعبًا وشمولية، بعد تغيرت قواعد المعركة تمامًا، فالجيش قصف المباني دون اكتراث لمن يتواجد بداخلها، وأجبر من تبقى من ساكنيها على الرحيل، فيركض السكان حفاة صارخين من المنازل، ليتم قصفهم في الأماكن الآمنة التي حددها الكيان الصهيوني. وبعضهم لم تمهلهم القنابل الإسرائيلية وقتًا للرحيل ودُفنوا تحت منازلهم على مرأى ومسمع العالم، دون سابق إنذار.
هذه المعركة خاضتها حماس بتفاخر كبير، وتغطية إعلامية إحترافية شاملة، ونجحت في تحويلها إلى حرب عصابات أكثر من كونها حرب حركة على دولة كما المرات السابقة، فهي ليست الوحيدة في المعركة، بل هناك الحركات القريبة لإيران كالجهاد الإسلامي، إلا أن سلاحها واحد وأسلوبها واحد في القتال، تخرج الصواريخ من تحت الأرض وتختفي فجأة وكأنها دودة الأرض.
نزح الآلاف بعد قصف منازلهم، وأصبح الدمار في قطاع غزة أقرب ما يكون للدمار الشامل، في مشهد لم يتوقع أحد أن يراه في غزة. ففي الحروب السابقة مهما اشتد القصف، لم يصل كما هو عليه الآن، بل كانت مشاهد الدمار متفرقة إلى حد ما، والآن من السهل رؤيتها على امتداد خارطة غزة بأكملها.
ومع ذلك، لم يخرج قتلى من الأنفاق من تحت الأرض، ولم يختنق رجال المقاومة كما كانت تتصور إسرائيل، ولم تنتهي حماس، لقد دمروا المدينة بحثًا عن المقاتلين في مدينة قالوا أنها موجودة تحت غزة، لكن لم يجدوهم، بل انهالت عليهم مزيد من الصواريخ أطلقت ومازالت من قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر.
باختصار..
انتصرت المقاومة.. حتى وإن وضعت الحرب أوزارها سيبقى الكيان الصهيوني يتجرع مرارة الهزيمة كمرارة العلقم الذي تتجرعه ثم تقذفه خارج فمك ليستمر طعمه طويلاً في الفم. وسيبقى كابوس حماس يقض مضاجع قادة الإحتلال إلى أن ينقلبوا إلى العالم الآخر، وسيبقى السابع من أكتوبر التاريخ الذي يرعب دولة الكيان ما بقيت.
أدرك الغزيون أن في فلسطين، عادة ما يكون للمعركة وجه واحد يحمل ملامح الشهداء والمجاهدين، يرتدي صبر الثكالى والغيارى على هذا الدين، وللعدو وجه واحد لا تخطئه الذاكرة، ولا يرتعش لقتله الرصاص.
أدرك الغزيون أن في فلسطين لا يقايض الدم إلا بالدم، وفي فلسطين، عائلات تودع قطعا من الأفئدة بالزغاريد والتكبير وأمل اللقاء.
أدرك الغزيون أن الأمل منحة ربانية تبعث على التفاؤل والجد والمثابرة، وبالإيمان يتشبث الغزيون بالحياة. ورغم القتل لا نسمع في غزة هاشم إلا "لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل، فداءً للمقاومة"، فقد بويعت حماس طواعية لأنها تعرف أن طلاق المكره لا يجوز. وتعجب كيف لإنسان فقد كل أفراد عائلته تجده صابرا متصبرا يقف كالطود، وتدهش لمن فقد ماله وأملاكه لا يقول هذا ما جنته علي حماس وما جنيته على احد، تصعق كيف لا يبيع دينه ومقاومته.
واليوم أدركت الضفة وعادت مرة أخرى تتصدر جنين عنوان الملاحم البطولية الفلسطينية، وتعود الى صدر الأحداث رغم جرحها النازف ورغم التطورات المتواترة وما شهدته من تصعيد للاحتلال في قصف الأهالي الفلسطينيين الذين أثاروا مجددا حفيظة الاحتلال بعد أن نجحوا في تكبيده خسائر غير متوقعة تعطيل عرباته العسكرية المصفحة بزرع المتفجرات التي فاجأت قوات الاحتلال المدعومة بقطعان المستوطنين المسلحين الذين انضموا إليهم لحرق بيوت ومزارع وعربات الفلسطينيين في حرب غير متوازنة لا يمكن أن يتساوى فيها الضحية والجلاد.
جنين تنتفض والضفة تشتعل وتوجه للاحتلال وللعالم رسالة لا تقبل أكثر من تأويل واحد، وهي أن الشعب الفلسطيني وجد ليبقى وأن جنين بخير وتواصل التنفس برغم آلامها وما تتعرض له من عدوان آثم وهي تصر على مواصلة المقاومة بما توفر لها من إمكانيات تربك الاحتلال وتدفعه الى الاستنفار تحسبا لما يمكن أن تصنعه مخططات هذا الجيل الجديد القادم من فلسطين .
طوبى لمن تنزلت عليه بركات بيت المقدس، وإن تعذر عليه الوصول لأسوارها.
لا شك أن مهر فلسطين على مدار التاريخ كان غاليًا، ولم يتفوق أحد على العرب المسلمين في التضحية من أجل ترابها، وهم اليوم من المحيط إلى الخليج يخوضون حرباً أخرى وعلى كافة الصعد، لمنع التهجير الجديد ولأجل تحريرها من رجس الصهاينة، فهل يفهم اللاعبون الدوليون ذلك وفي مقدمتهم أمريكا؟ لستُ واثقًا من إمكانيات الإدارة الأمريكية لإدراك ذلك، فعلى ما يبدو أنهم منهمكون في حسبة انتخابية بحتة.