لا تزال نوادر «قاراقوش» ,الذي هو أحد الأشكال «الكاريكاتورية» التي مرّت على هذه الأمة, تتداول فيضحك الناس حتى يستلقوا على أقفيتهم وذلك مع أنه يقال إن هذا الحاكم كان جاداً وعادلاً وأن كل ما روي عنه وما اشتهر به كان تلفيقاً من الذين لم يقبلوا أن يتولى مواقع المسؤولية وهو مثله مثل كافور الإخشيدي غريباً وليس ابن حسب ونسب ولا من العائلات المرموقة.
والآن وقد انتهى عهد العقيد معمر القذافي وانتهت جماهيريته وبات رحيله مؤكداً فإن طلَّته الليلة قبل الماضية على أبناء الشعب الذي حكمه أكثر من أربعين عاماً ,من موقع «الأخ قائد الثورة», وعلى العالم بأسره قد لخَّصتْ مسيرة طويلة اختلط فيها الجد بالهزر واختلطت فيها النوادر بالحكايات وحقيقة أننا عندما تتخلص ليبيا من هذه الحالة «الكاريكاتورية» ربما نفتقد الى هذه الحكاية التي أعطت السياسة العربية وبخاصة من خلال اجتماعات القمم صورة مضحكة طالما تناقلها الصحافيون وتناقلتها شاشات الفضائيات ووكالات الأنباء.
وبدوري فإنني كصحافي ,عمل في صحف عربية كثيرة وتنقل بين العواصم مطارداً للأحداث والأخبار, كنت قد شاهدت مع من شاهد «الأخ قائد الثورة» وهو يهبط من جناحه في فندق الأوراسي في الجزائر العاصمة التي كانت تستضيف إحدى القمم العربية بلباس غريب عجيب.. برنيطة «كاوبوي» وبنطلون ابيض ضاغط على جسده إلى حد بروز كل تضاريسه وقميصاً من الساتان الأخضر بأزرار حمراء وبيدين غارقتين في «كفَّين» أبيضين حتى الكوع.. تراكض الصحافيون نحوه وسألوه عن سبب إغراق يديه بالكفين الأبيضين.. أطلق قهقهته المعهودة وقال وهو يترنح مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال :حتى عندما أصافح هؤلاء ,والمقصود الزعماء والقادة العرب, لا أنجَّس يدي بملامسة أيديهم.
في بدايات عقد ثمانينات القرن الماضي دعيت كصحافي لتغطية اجتماع في طرابلس الغرب للمعارضات العربية.. دخل «الأخ قائد الثورة» إلى القاعة التي انعقد فيها الاجتماع وهو بلباسه العسكري الكامل وبكل نياشينه الثورية.. جلس خلف طاولة الرئاسة فجلس الحضور بعد أن وقفوا طويلاً.. كانت قبعته العسكرية تغطي عينيه حتى أرنبة أنفه مما اضطره لإمالة رأسه إلى الخلف حتى يرى المجتمعين الذين كانوا يتسمرون في مقاعدهم انتظاراً لما يقوله.. بقي صامتاً وهو يتلفت وينقل بصره في قاعة الاجتماعات بطريقة استعراضية.. ثم وبعد نحو نصف ساعة وهو على هذه الحالة قال :»أنتم يا شذاذ الآفاق من هو الحمار الذي دعاكم.. أنتم أتيتم لتنهبوا أموال الشعب الليبي.. أنا لا أعترف إلا بالمعارضة المغربية» ثم كرر:من هو الحمار الذي دعاكم..؟
ردَّ أحمد اليماني ,وهو أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقد توفي قبل أسابيع رحمه الله, وهو يشير الى من كان يجلس الى جانبه خلف طاولة الرئاسة :»إن الذي دعانا هو عمر الحامدي».. الذي كان معيناً كرئيس للمؤتمر الشعبي العربي العام.. ضحك القذافي بطريقته الاستعراضية وهو يضرب الطاولة بقبضته بقوة وقال وهو ينهض لمغادرة المكان:ألم أقل لكم أن الذي دعاكم حمار.!!
إن هذا بعض ما رأيته وأما بعض ما سمعته فهو أن دعوة وصلت لرئيس منظمة التحرير السابق أحمد الشقيري لزيارة ليبيا على جناح السرعة وكان أنَّهُ أُستقبل في مطار طرابلس الغرب استقبالا حافلاً شارك فيه عبد السلام جلود ومصطفى الخروبي وآخرون من قيادة الثورة ثم بعد أن أُوصل إلى جناحه الفخم في الفندق الذي أُنزل فيه أُعطي «الكتاب الأخضر» الذي لم يكن قد سمع به بعد وقيل له أن «الأخ قائد الثورة» يريد رأيك بهذا الكتاب العظيم وهو سيستقبلك غداً في خيمته.
في صباح اليوم التالي جاء هؤلاء إلى الشقيري وسألوه عن رأيه بهذا الكتاب فقال لهم وهو لا يعرف أن كاتبه هو القذافي نفسه :إن هذا الكتاب يصلح لطلاب السادس الابتدائي وإنني لم أجد فيه ما يثير الاهتمام إنه كتاب تافه.. فكان أنْ حملوه بسرعة إلى المطار حتى بدون أن يأخذ بعض ملابسه ووضعوه في أول طائرة مغادرة ووُضع اسمه على القائمة السوداء ولم ينعم الله عليه بزيارة الجماهيرية حتى وفاته رحمه الله.. ..ولله في خَلقهِ شُؤون!!
(الرأي)