ما يحدث الآن وعلى مدار شهر كامل في غزة هي صورة أكبر من المحرقة، فعلينا انتاج مصطلح اعلامي بعنوان محرقة العرب كمعادل للسردية اليهودية، وهي ليست كذبة بل هي الحقيقة كلها على مدار أكثر من سبعين عاما، واستطاع الحراك الدبلوماسي الأردني أن يعبر عن حجم الجريمة صراحة حيث تجاوز الموقف الأردني الثابت والواضح نظيره العربي، فتصريحات جلالة الملك عبدالله الثاني الذي يطالب على الدوام بوقف اطلاق النار ووصف ما يجري بأنه إبادة وجريمة حرب مثالا على ذلك، وكذلك جلالة الملكة رانيا التي عبرت بصورة احترافية عبر لقاءاتها الإعلامية أن ما يمارس ما هو الا فصل عنصري وكانت دقيقة بوصفها للمشهد غير الإنساني لممارسات جاوزت العقل وطبيعة الحروب في العالم، ونرى كذلك إلى تصريحات الحكومة الأردنية ووزارة الخارجية كذلك، تلك المواقف التي تناغمت مع الحراك الشعبي الأردني الموحد تجاه ما يحدث في غزة من مجازر التطهير العرقي.
ففي لجّة الدم الذي سال ليصل إلى عتبات بيوتنا مع كلّ مذبحة جديدة تقتلع أجسادًا لأطفال يحلمون بحياة طبيعية، ومحرقة غزّة الفظيعة ما زالت ماثلة للعيان. نحن إزاء موت الإنسان الذي أشار اليه فوكو فكل القيم الإنسانية التي عرفناها في المواثيق الدولية والحضارية سقطت في قمامة الميدان تاريخيًّا وأنثروبولوجيًّا.
شهد التاريخ البشرى العديد المذابح وعمليات الإبادة الجماعية وعمليات الطرد والتجويع، وهي لا تكتفي بالضرورة بالقتل الجماعي فقط، ولكنها أيضًا مجموعة الأفعال التي ترتكب ضد السكان من أجل تدميرهم كليًا أو جزئيًا سواء تعلق الأمر بالمذبحة أو الطرد أو تجويع وحصار أو فرض ظروف معيشة يمكنها أن تدمر السكان بالقوة.
فما يحدث الآن في غزة من قبل كائن متوحّش يتلذذ بمذاق الدم الساخن، خائضًا حروبه الدمويّة بوحشية منقطعة النظير، بذرائع عرقيّة وقوميّة ودينيّة وايدلوجية تصبّ في نهايتها في بحر الدم القاني الذي أغرق أرواحنا.
هذا المتوحش الذي لم يُسْقط القتل من قاموسه رغم ما نعيشه من نداءات تطالب برقي الانسان وحقوقه، فكانت مجرد أوهام عشناها وتغذت عليها أدبيات السياسة العربية التي خُدعت بمفاهيم الحوار والمصالحة الإنسانية والسياسية، وكأننا لم نخرج من تاريخ البدائية الأولى، فلم يتبدّل شيء فيه عن واقعه القديم سوى أنّه طوّر آلة القتل وتقنياتها المتقدمة، من الكيماوي والبيولوجي والنووي وغيرها، كما لو أن هذا التوحش يحتاج إلى مزيد من الدماء وأذكر هنا تساؤل باسكال: "أيّ وهم هذا الإنسان؟ أيّ اكتشاف، أيّ فوضى، فهو المتوحش الذي اخترع الرقّ والسجون، وهو الذي اخترع إمكانات الموت الإبادة، وهذيان التدمير والقتل والتعذيب.
كل تلك البشاعة التي اقترفها العدو الصهيوني عبر حياكة سياسة الخداع والكذب وتسويقه في مسارات الاعلام الذي انطفأت عينه، هذه البشاعة تقودنا لتذكر خدعة حصان طروادة، للقائد أوديسيوس عند هوميروس والتي بسببها هُزمت طروادة على أيدي الإغريق. لقد اختار أوديسيوس الحصان شكلًا لخدعته، لأنّ أهل طروادة كانوا من مربي الخيول، وسيلقى التمثال الضخم للحصان هوى في نفوسهم، حيث تحولت الخديعة إلى غواية تكشفت بشاعتها، فهل نحن أما خديعة تتزين بالمواثيق الدولية التي تنتصر لوجود الانسان؟.
فالعدو له طروادته ولا يكف عن الكذب الذي كتب عنه جاك دريدا، فممارسات العدو تسيل عبر تضميد الإنسانية بالكذب والمداهنة التي لاقت وللأسف رواجنا عند بعضنا، فلكل مذبحة لها مبرراتها لدى القاتل الآثم، فهذا الوحش الذي يبدو وديعا امام شاشات التلفاز هو في عُرف موران " انسان مجنون مرورا بنابليون وهتلر وشارون ونتنياهو وفرانكو وغيرهم والقائمة تطول، وما يفعله العدو الصهيوني هو محض جنون في إطار ممنهج، ورغم كل المحاولات الدولية التي انتظمت مؤخرا لإيقاف شلال الدم الغزّي بائت بالفشل الذريع أمام وحش عشق القتل والاحاطة بكل شيء ككائن له الحق بالأرض كلها دون سائر المخلوقات، يقول إيمانويل ليفيناس:" إنّ أصل أزمة النزعة الإنسانية لا ريب إلى اكتشاف حقيقة أنّ المبادرات البشرية عقيمة ومن دون جدوى، على رغم تعاظم الطموحات ووفرة وسائل العمل.
إنّ انعدام فاعلية الأعمال البشرية يفضح هشاشة مفهوم الإنسان." فهل هذا الكائن سليل الثقافات والحضارات البعيدة، أم أنه مجرد كذبة كبيرة مغلفة بأقنعة عديدة يمارس من خلالها بشاعته غير المعهودة، فهذا المخلوق القاتل ليس في نظر فوكو أكثر من حدث معرفي مؤقت.
فالمسألة ليس لها علاقة بمحرقة غزة فقط ولكن غزة كانت ذروة وحشية الانسان المعاصر، الذي أسقط كل النظريات المعرفية والجمالية لوجوده، النموذج الذي كشف الغطاء عن عفن القاتل الذي كان يختبئ خلف المفاهيم الحضارية محاولا اغراق القنوات الإعلامية بها، فإبادة غزة هي الصورة الأكثر وضوحا لتحولات الكائن التوسعي والمجرم، وأعتقد أن ما شربناه من تعددية لأوجه الحقيقة والتي جعلتنا في منطقة الشكوك والمناقشة حولها هو الذي قادنا لتصديق الكذب والخدعة الممنهجة، وقد أشار مونتين إلى تعددية أوجه الحقيقة التي سمحت بالكذب بينما كانط رفض الكذب بشكل مطلق بحيث لا يمكن الكذب تحت أية مصلحة وضرورة، وعدّ الكذب شرَا مطلقًا، وما نشاهده الآن من شهوة للدم ما هو إلا تهديم للوهم واليوتوبيا اللذين أغرق الإنسان نفسه فيهما منذ زمن بعيد، ثم الأديان واليوتوبيات، التي ثبت بالممارسة أنّها لم تُصلح شيئًا في المكوّن البنيويّ للإنسان وطبيعته المركّبة والمعقّدة والمتناقضة، قال المفكر إيراسموس: "إنّ عقل الإنسان معدّ كي يفتتن بالكذب، أكثر بكثير من افتتانه بالحقيقة".
فالمبحر في شاشات الإبادة الغزّية يدرك تماما موت الإنسان وإنسانيته، فالبرهان الذي أراه إلى يردني إبادة تدمي العين والقلب لأطفال غزة يمزّقون بالطيران والقذائف والقنابل التكتيكية، فلا أستطيع أن أعلن عن موت الإنسان وإنسانيته..