العرب؛ الأردنيون منهم على وجه التحديد، هم ورثة القيم الكبيرة التي خلفتها الثورة العربية الكبرى، وهي قصة ملحمية، قادها الهاشميون، وتعرضوا بعدها لاستهداف كبير، ولم يصمد بعد هذا الاستهداف سوى وطن عربي واحد، ما زال يحتفظ بقيم ومبادئ هذه الثورة، التي يتعمد كثير من العرب التقليل من شأنها وآثارها، ولن أدخل في تلك الأسئلة والاستنتاجات التي يتعمد كثيرون بتقديمها، لتعطيل وصول أية حكمة أو استنتاج مفيد للعرب.

في مقالة سابقة، ذكرت شيئا عن تشابه ظروف الأمة العربية الحالية لسابقتها قبل حوالي 100 عام، وقلنا بأن الدول العربية لم يسبق أن كانت دولا تشبه الحالية بالحدود والمساحة والأنظمة السياسية التي تدير شؤونها، فكل الوطن العربي كان تحت حكم عثماني، ورغم شهادتنا واعترافنا بأنه قدم الكثير، لكنه تحول في النهاية إلى نظام استبدادي يشبه أي احتلال، ويحول دون حرية العرب وحقوقهم، مقارنة بالأتراك، وبعد الهزيمة التي لحقت بالدولة العثمانية، ظهرت حركات تحررية عربية كثيرة، استفاد منها الطرف المنتصر بالحرب العالمية الأولى ثم الثانية، ومن العدم أو المؤامرة، ظهرت جهات عربية ما، تقاربت مع المستعمرين الجدد، ونالت حظوة وحصة من الإدارة لشؤون بعض المناطق العربية، وفيما بعد أصبحت دولا وأنظمة سياسية..

اليوم أيضا، ثمة منتصرون؛ يريدون رسم وجه آخر للمنطقة العربية، على أساس استعماري أيضا، تنافسي، حيث ينقسم العالم اقتصاديا لمحورين تقودهما دولتان، تتنافسان على الأسواق والمكاسب الاستراتيجية والجيوسياسية، ولأن أمريكا هي المسيطرة الفعلية على منطقة الشرق الأوسط، فهي تريد اليوم أن تفرض أجندتها على المنطقة العربية، بالشكل الذي يخدم مصالحها الكثيرة.

منذ سنوات وامريكا تعمل على إنجاز شرق أوسط جديد، تكون اسرائيل فيه هي الدولة المسيطرة، والـ»مدير» للشأن الاقتصادي في الشرق الأوسط، وعلى عاتقها تقع حماية المصالح الأمريكية كلها، وقد سبق أن تم الإعلان عن مشاريع اقتصادية كبيرة، متداخلة، تتطلب ظروفا أمنية جديدة، ولا يمكن أن يتم إنجاز مشروع واحد منها، مع وجود تهديد أمني مهما كان حجمه.

المقاومة؛ أو التيار الرافض للتمدد الصهيوني، يمثل خطرا وجوديا على تلك المشاريع الكبيرة، وطائرة مسيرة واحدة، أو صاروخ من «تنك»، يمكن أن يهددا إنجاز كل المشاريع في المنطقة المستهدفة، ولأن هذا المخطط الكبير ضروري بالنسبة للغرب كله، تطلب الأمر خطة نادرة لتأمينه، مهما كانت الخسائر والتجاوزات، وهذا ما نفهمه من حرب الإبادة، التي ابتدأت بتمرين «وهمي» في 7 اكتوبر الماضي، نجم عنه هذه المحرقة «المثالية»، التي تقدم فكرة لما سيكون عليه الأمر بعد «الطوفان».

كل قوى المقاومة وحواضنها الشعبية، ستلقى المصير نفسه، ومهما كانت الخسائر، فالتحدي بالنسبة لأمريكا يحتاج لتضحيات كبيرة، لأنها ستعاني الكثير من المشاكل والتهديد الوجودي، إن لم تتمكن من السيطرة الفعلية على هذه المنطقة، وتحييد كل المخاطر التي تهدد المشروع الكبير.. حتى ولو استدعى الأمر تفريغ الشرق الأوسط من كل أو من قسم كبير من سكانه، ونموذج إبادة وتطويع غزة، واضح، ويتم تدشينه بشفافية كما نتابع.

ليس الخطر الذي يواجه العرب يتمثل فقط في استنزاف ثرواته، واستخدام موقعه الجغرافي وتحويل مواطنيه الى عمالة رخيصة، بل أيضا هناك خطر يتمثل في الهوية والثقافة والعقيدة الوطنية العربية، فهي أخطر عنصر في مجابهة هذا المشروع الاستعماري الجديد، وسوف يتم استهداف العربي والمسلم ثقافيا واجتماعيا وعلميا، ومطاردة ومنع كل مظاهر استقلال تفكيره وحريته، وسوف يعود إلى ما قبل التاريخ والجغرافيا إن لم يتماهى مع المشروع الأمريكي الجديد.

نحن من جديد؛ يتم وضعنا في زاوية ضيقة، مصيرية، لا يمكن الخروج منها إلا بثورة عربية ثانية، تحتاج لمن يطلق قذيفتها أو رصاصتها الأولى، ويبذل التضحيات من أجل التحرر والاستقلال، وضمان البقاء على قيد الوجود.

الدستور