يبدو أننا نعاني من تراكم يجتهد النسيان كصيغة موضوعية لتجميل الواقع السياسي العربي، وهذا هو أخطر ما تتعرض له الأمة في مخططاتها السياسية التي تمكث في الآن، وهذا الأمر يقودنا للحديث عن التناسي أو النسيان، فالتاريخ البشري عامة والسياسي على الخصوص مليء بالشواهد الدامغة التي ساهمت في تراجع فاعلية السياسة العربية وعلاقاتها البعيدة مع الغرب، فمنذ الوطن الموعود لليهود ونحن لم نصدق عدونا الذي كان في خطاباته صريحا إلى حد الفجاجة فيما يخص طموحاته في المنطقة، الطموحات المركبة التي تشمل الأطماع الاحتلالية والاقتصادية وصولا للمهيمنة على السوق ومجرياته.
فمنذ دعوة هرتزل إلى عقد مؤتمر لليهود في بازل بسويسرا 1897، والدعوة إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين عبر الهجرة الممنهجة ونحن لم نصدق ذلك ولم نعمل بذات الفاعلية لإحباط المخطط المنظور، كمن يضع رأسه في الرمل، وهي صورة من صور النسيان السياسي الذي لم يتيقظ لتلك المؤامرة عبر مؤتمرات مناهضة لذلك،
فلم نتذكّر الأسباب والمسارات والدروس بعد ذلك وواصلنا النسيان المتعمد وبقينا نراوح بين الظاهرة الكلامية والركون إلى وعود باهتة، وقد وصلنا إلى جغرافيا الاقتتال والتوجهات المتناقضة بين أصحاب القضية المحورية "العرب"، فهل يحول ذلك دون محاسبة أو مساءلة، الأمر مرهون بطبيعة المفاهيم التي انغرزت في الجسد السياسي العربي التي تحولت إلى عقلانية عاجزة عن الفعل، فأنتجت مصطلحات تنتظم في مسارات الهزيمة كسياق للمنظومة النضالية والاقتصادية والأخلاقية، أي نمنا في فصول التفكير بالذكرى، فنحن مدينون لأرنست رينان، المفكر القومي الفرنسي، بمعادلة مثيرة: تُبنى الأمم على ذكريات مشتركة ونسيانات مشتركة لنقل إنّ فظائع الحرب، وجرائمها، ومنوّعات العنف فيها، الجسدية منها والطقوسية والرمزية، «خيرٌ لها أن تُنسى».
وهو ذات المشهد الذي لحق بالمفهوم التوثيقي لما حدث من جرائم وإبادة للفلسطينيين حيث اندملت مجريات المذابح في كراكيب الخطاب السياسي العربي المعاصر وفي المناهج العربية ومجرياتها التربوية، كما لو أننا في كل حدث صادم نبدأ من جديد، نبدأ بلا ذاكرة أو حجة.
وهو التعبير ذاته الذي أشار إليه "رينان" بصدد مجزرة «سان بارتيليمي»، التي ارتُكبت في فرنسا بحق البروتسطانت خلال الحروب الدينية بين بروتسطانت وكاثوليك في القرن السادس عشر.
فهناك مواجه عجيبة بين الذاكرة الحية والنسيان بكونهما مكوّنان من مكونات الذاكرة ذاتها، هذا يعني أنّ عملية النسيان متواصلة مع عملية التذكّر. ولعل الأهم هو قول أوجيه بأن قمع الذاكرة (الأمنيزيا) الأحرى أنه عملية قطع للوشائج والأواصر الواصلة بين الذكريات.
لكنني أكاد أن أجزم أن الحالة الفلسطينية حالة استثنائية والسبب يعود إلى أن الاحتلال يقوم باحياء بشاعته بشكل مستمر ودائم، فيبقى الفلسطيني في حالة من اليقظة فيما حدث في الماضي ويحدث الآن، فقد تعرضت القضية الفلسطينية إلى حالة قوية من المحو بدء من سطو الاحتلال على مركز الدراسات الفلسطينية ابان الاجتياح في العام 1982 وكذلك الوثائق التي تعد بالألاف من القدس الذي نهبها الاحتلال الصهيوني وهي موجودة بالمكتبة العبرية، فالمحو يعني النسيان وهو جزء من منهجية الاحتلال في تغيير التاريخ الأنثروبولوجي لجغرافيا فلسطين، وقد أشار بول ريكور إلى هذه المسألة بقوله: أن الذاكرة، على الرغم من صعوبة فهمها، إلا أنها أساس الشهادة والأرشيف، وهي المورد الأساسي للتاريخ. فإن الجدلية بين الذاكرة والنسيان هي الأكثر حدة في حالة التسامح السياسي والعفو، ومما لا شك فيه والمعروف أن وجه الاحتلال قبيح.
فالعيش تحت الاحتلال لسنوات طويلة، يخلق اليأس والمقاومة في آن، كأننا أمام متناقضين بين الذاكرة والنسيان.
فرغم ما يحدث في غزة من إبادة وقتل إلا أن الحدث الصادم استطاع أن يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وصارت حديث العالم كصورة من صور المقاومة ضد النسيان، بل ووحدت الجماهير العربية تحت عنوان واحد هو "مقاومة المحتل" وهذا انجاز لا يمكن أن يتحقق إلا عبر قوة الصدمة التي أيقظت الذاكرة وأعادت لها الحيوية كاملة.
ومن صور النسيان الذي يحاول الاحتلال إنجازها هو تفكيك القرى الفلسطينية عن بعضها البعض أي سياسة التباعد بين تجمع وآخر، عبر عزل التجمعات الفلسطينية عن بعضها، وتمزّيق النسيج الاجتماعي، والذي ينعكس بشكل مباشر على النشاط الاقتصادي كذلك، واعتقد أن العقل السياسي لغالب النخب وبعض الجماهير على اختلاف مكوناتها الاجتماعية وأمزجتها السياسية تعاني من مرض النسيان, وهو أمر في غاية الخطورة في سياق فقدان الرأسمال السياسي الخبير الذي من الممكن أن يساهم في التعامل مع الازمات بصورة احترافية مختلفة وتلافي الأخطاء السياسية الجسيمة ومحمولات "التكنو بيرقراطية" التي هي صورة من صور النسيان، ودحر النسيان الذي هو نتاج الانقسامات في النخبة السياسية وبين انتماءاتها الأيديولوجية والدينية، وأعتقد من الضرورة بمكان تجديد الخطاب السياسي بما يمكنه من التعامل مع مجريات الحاضر الذي ينتصر للقوة والمحو، فالحاضر يحتاج بوضوح إلى معالجات أكثر ذكاء وقوة وإلا سنبقى في منطقة خطر ايدولوجية النسيان التي تقودنا إلى تحقيق سياسة العجز وشلل الإرادة وتبديد المخيلة التاريخية والسياسية.