بالأمس كنت أستمع لقصيدة الشاعر المصري الكبير علي محمود طه ( قصيدة فلسطين ) والتي غناها الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب بصوته وهي تقول: أخي جاوز الظالمون المدى ... فحقَّ الجهادُ وحقَّ الفدا ... أنتركهم يَغْصِبونَ العروبةَ ... مَجدِ الأبوةِ والسُؤددا ... وليسوا بغيرِ صليلِ السُيوفِ ... يجيبون صوتاً لنا أو صدى ... فجرِّد حُسامَك من غِمده ... فليس له بعد أنْ يُغمدا ... أخي أيها العربي الأبي ... أرى اليوم موعدنا لا الغدا..
كانت هذه الكلمات تدخل إلى أعماق قلوبنا فتثير كل مشاعر الأسى التي كان يقصدها الشاعر عندما كتبها بعد أيامٍ من نكبة فلسطين عام 1948 كانت تدخل إلى تفاصيل مشاعري فتثير شجوني على فلسطين التي أضاعها مقصري العرب، كانت توقظُ حواسي؛ وأشعر برغبةٍ جامحةٍ لنصرة إخوتي المظلومين في غزة الذين أُخرجوا من ديارهم بخير حق، واستجابة لنداء العروبة التي لم يبق منها شي.
كانت أبيات هذه القصيدة في تلك الأيام تثير بكلماتها ولحنها الشجي مشاعرنا التي كانت ترنو إلى تحرير فلسطين، وتتمنى أن نراها حرة من جديد، كانت تدخل قلوبنا وتشكل حالة من النشوة والقدرة على تحقيق الحلم المستحيل لو أتيحت الفرصة لجموع الشعوب بفعل ذلك.
كنا نشعر بأن فلسطين تصرخ في وجوهنا؛ تستثير هممنا لندافع عن شرفها وعرضها الذي دنسه أراذل الأرض وشُذاذها؛ كان لنا شعور عربي قومي ننطلق من خلاله لنعبر عن غضبنا وسخطنا على ضياع درة أرض الله منا.
وتمضي الأيام ونصل إلى حاضرنا العقيم وواقعنا الأليم وإذا بنا نعيشُ أسوأ لحظات تاريخنا المملوءة بالتخاذل والخنوع، وإذا بأمتنا تتسابق لتقديم قرابين الانبطاح والاستسلام لأعدائها على مذبح الذل والهوان وضياع النخوة والمروءة بحجة التطبيع والتعاون والتكامل الاقتصادي والاندماج مع العدو وغيرها من الإدعاءات الواهية، ونرى اليوم كم ابتعدنا عن تلك المشاعر النبيلة التي كانت تجتاحنا بمجرد سماعنا لأي شيءٍ يذكرنا بفلسطين، ونرى كيف فقدنا بوصلتنا وتشتت اتجاهنا، وكيف صرنا نخلق كل يومٍ عدواً جديداً لننسى عدونا الأوحد، ونطمر رؤوسنا في رمال التيه كي نتواري من الخجل والضعف والهوان؛ وعرفنا كم اشتغل علينا عدونا حتى أصبحنا لا نقوى حتى استنكار وشجب ذلنا وانبطاحنا فضاعت همتنا.
وكما خذل العربُ فلسطين قبل ستةٍ وسبعين عاماً، يعودوا اليوم ليخذلوا غزة؛ غزة التي كُتب عليها أن تقف كفتاةٍ عفيفة وسط جمعٍ من الوحوش التي تحاول أن تنهش لحمها، غزةُ التي تنظر بعيونها الذابلة الحزينة إلى إخوتها العرب كي تستنهض رجولتهم وتستثير نخوتهم لنصرتها فلا تلقى مجيبا؛ غزةُ التي تصرخ في وجوهنا وتقول: أينكم يا عرب؟ أينكم يا مسلمين؟ أينكم يا إخوتي يا عزوتي؟ ما الذي ران على قلوبكم حتى وصلتم لهذه الدرجة من الانحطاط والاستسلام؟ ولماذا كل هذا الخنوع والهوان؟، تصرخُ غزة ولا تجدُ مَنْ يجيبها؛ فتظل مكسورةً حزينةً؛ ودمُ عفتها ينزفُ على مدافن رجولتنا، تبقى غزة وحيدةً بلا مجيب، وتبقى نداءاتها تستصرخ عروبتنا الواهنة فلا نجيبها لأننا أمواتاً بحكم الأحياء.
وأمام هذا الخذلان الكبير، وعدم القدرة على غوث المستضعفين ونصرة قضيتنا المقدسة. وأمام هذا التفريط الواضح بحق الأمة وحقوق شعوبها، وأمام عدم جدارتنا في مراعاة أوامر الله، فقد فقدنا شرعيةَ وجودنا؛ واستحقَّيْنا قصاص الله وعذابه. وغدونا على عتبات نهايتنا. نعم تستحق هذه الأمة عذاب الله الجبار المنتقم. عذاب الله لأننا تخاذلنا عندما اتخذنا أعداء الله أولياءاً من دون الله. نعم سينتقم اللهُ من المنغمسين منا في وحل العمالة والخيانة. وسيستبدل الله هذه الجموع الواهنة التي تساق كالقطيع إلى مذابحها دون أن ترفض واقعها بعدما أصبحت غُثاءاً كغثاء السيل؛ بلا قيمة ... ولا وزن ... ولا تأثير ... وبلا طعم؛ حتى أصبحتْ عبئاً على العالم كله؛ وتحقق فينا قوله تعالى: ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) سورة محمد، الآية 38.
إن الأمة التي تقتل أُسودها، وترتمي في أحضان أعدائها، ولا تسمع قول الله تعالى ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)؛ ولا تعقل قول جموع المسلمين الداعي لفرض الجهاد على كل مسلم عند احتلال أي جزء من أرض المسلمين؛ ولا تفزع للقول المأثور في المروؤة وإغاثة الملهوفين ( المنية ولا الدنية )؛ ولا يغضبها كل هذا الدم البريء الذي تهرقه الطغمة الفاسدة على أرض غزة، ولا يوقضها نداء الاستغاثة الذي يطلقه كل ما هو حيٌ هناك؛ فإن هذه الأمة قد انتهت صلاحيتها وغدت عبئاً على نفسها وعلى العالم؛ وإنها إلى زوال.
وإن الأمةَ التي لا تسمع صرخات الأمهات الثكالى تحت أنقاض غزة، ولا تسمع عويل الأطفال المنادين على والديهم في لحظات الخوف والرعب، ولا تسمع أصوات الصواريخ جالبة الموت، ولا هدير الطائرات التي تحمل عناقيد الغضب وحقد الخائبين من صلابة أهل الأرض وبسالتهم، ولا ترى نيران المدافع المنهمرة على أجساد الأبرياء ولا استغاثات وأنين الثكالى اللواتي فقدن أعزائهن بنار الظلم وخباثة المعتدي؛ حتماً ستكون على موعدٍ قريبٍ مع النهاية، وستذوق وبال أمرها عما قريب.
إن طبول استبدال أمتنا تُقرعُ صباحَ مساء، وأكاد أجزم أن هذه الصرخة ربما تكون من الصرخات الأخيرة التي يطلقها الشرفاء لشعوبهم؛ علها تجد من يسمع أو يعي أن لحظة الانتقام الالهي قد أزفت، وموعد العذاب قد اقترب، علَّها تجدُ من ينصرها أو يدافعُ عنها.
إن هذه الأمة وهي تنتظر - بزعمائها وحكوماتها وجيوشها- النُصرةَ من دولةٍ عظمى منحازةٍ بالمطلق إلى أعداء الإنسانية كلها؛ فإنها بالمطلق ستُهزمْ، وبالمطلق ستدور عليها الدوائر، وبالمطلق ستولي قريباً الدُبُر، وبعد كل هذا الخبث وهذه السنوات التي كانت سنوات تيهٍ وضياع؛ ستُشرقُ قريباً شمسُ الحقِ الساطع، وسيأتي مَنْ يراعي حقوق الله في العباد وفي البلاد، ومَنْ ينصره، ومن يتخذ المؤمنين أولياء من دون الأعداء، وسينتشر عدلُ الإسلام وحقُ الإنسان بالعيش بكرامةٍ، تصونها شريعة الله من فوق سبع سماوات، وسيعودُ عزُ الإسلام وعدله حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه؛ وستصبحُ كلمةُ الله هي العليا وكلمة الذين ظلموا هي السفلى، عندما سيلعن الله الكاذبين والمخادعين والمرجفين الذين سيصبحون وقود جهنم وحطبها.
فاعتبروا يا أولي الألباب..