الدولة هي شكل من أشكال الارتباط الإنساني، أو كما عبر عنها أرسطو، وسيلة لتطوير الأخلاق في الشخصية الإنسانية وهي شكل مثالي من الارتباط، يلبي الاحتياجات الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية للمجتمع بأكمله، بينما يرى كيلسن بأنه يجب أن ينظر إليها في سياق تفاعلها مع بقية العالم. العناصر الأساسية لأي دولة هي الحكومة والشعب وإقليم جغرافي ذي حدود معينة تمارس عليه الدولة سيطرتها الشرعية من خلال إرساء النظام والأمن وتنفيذ القوانين التي يهيمن عليها الدستور، وتعامل الدولة كوحدة مستقلة في السياسة الدولية بعد أن تمنحها بقية الدول الاعتراف بوجودها. تعكس أفكار روسو تصوره للدولة الصحية (غير الفاسدة) بأنها توجد فقط عندما يتم الاعتراف بالصالح العام كهدف.
ولو أردنا تفكيك مفهوم الدولة اليهودية لاختبار مدى انسجامه مع مفهوم الدولة المتعارف عليه عبر العصور لوجدنا أن هذا الكيان لم يكن يوما وسيلة لتطوير الأخلاق في الشخصية الإنسانية كما تصور أرسطو، فقد سلب أصحاب الأرض الأصليين حقوقهم الدينية والثقافية والاقتصادية ويسعى لاستئصال جذورهم التاريخية أيضا. هذا الكيان لا يتفاعل مع العالم بطريقة صحيحة، وكيف يمكن له ذلك طالما يعتقد مؤسسوه بأنهم شعب الله المختار، الذين فضلهم الله على شعوب العالم؟، ولم يتأقلم هذا الكيان أبدا مع محيطه الإقليمي الذي يشترك سكانه بالعديد من العناصر التي تشكل أمة واحدة كاللغة والعادات والتقاليد والدين والتاريخ والجغرافيا وغيرها الكثير، بينما بقي هذا الكيان يشكل جسما طارئا وغريبا على هذا النسيج الذي يشكل البلاد العربية.
لم يقدم هذا الكيان أيضا تجسيدا لفكرة الدولة غير الفاسدة كما صورها روسو، بل مارس شتى أشكال الفساد على المجتمعات التي تعيش داخله كجماعات مختلفة تعاني من العنصرية واللامساواة حتى بين اليهود أنفسهم. وبقي كيانا بلا حدود جغرافية واضحة او دستور مكتوب، لذلك لا يمكن النظر إليه باعتباره وحدة مستقلة في السياسة الدولية لو تم تطبيق المعايير الدولية عليه بعدالة.
فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" التي روج لها زعماء الحركة الصهيونية مثل إسرائيل زانجويل وثيودور هيرتزل والتي نفذتها بريطانيا لم تعد شعارا فقط بل أصبحت هدفا لقتلة يسعون إلى إبادة شعب بأكمله أو تهجيره لتصبح الأرض فعلا بلا شعب، فالوجود الاسرائيلي يعني الغياب الفلسطيني تحت هذا الشعار، ولكن هل من سيتم منحهم هذه الأرض هم شعب فعلا؟ .
مصطلح شعب يعبر عادة عن مجموعات تعيش في منطقة جغرافية محددة وتتميز بملامح وصفات عامة تتوفر عادة بشكل طبيعي وتلقائي عند كل شعوب العالم، كوحدة اللغة والمصير والثقافة والتاريخ المشترك والإقامة على أرض، وسلوكيات مشتركة كالطعام واللهجات. لم يكن اليهود يوما شعبا، بل هم اشخاص وجماعات لا يجمعهم إلا الدين فقط، حيث استجلبت الصهيونية الجماعات اليهودية من مختلف مناطق العالم، كل جماعة منهم لها لغتها الخاصة وعاداتها وثقافتها وتاريخها الذي لا يتقاطع أبدا مع تاريخ غيرها من الجماعات، لذلك لا يمكن إطلاق مصطلح شعب على هذه المكونات المختلفة من المجموعات المتباينة. وهذا الأمر يفقد هذا الكيان عنصرا هاما من العناصر التي تكوّن الدول عادة وهو الشعب.
تعتبر اليهودية جنسية لليهودي في سابقة لا تطبق أبدا على أتباع الديانات الأخرى، ولا يوجد تعريف محدد لليهودي، فحسب شريعتهم فإن من كانت أمه يهودية فهو يهودي، وبناءا عليه فقد يكون الملحد يهوديا وكذلك الصهيوني أو الإصلاحي أو أي متبع لأي أيديولوجيا على أساس عرقي بيولوجي، وقد يكون الأوروبي يهوديا وكذلك الآسيوي والإفريقي، ولا يوجد صفة تجمع هذه الجماعات سوى أنها جماعات لم تنسجم مع محيطها عادة، وكرهتها كل الشعوب، وكانت فرصة الغرب في التخلص من المسألة اليهودية هي بخلق حيز لهم في البلاد العربية، ذي وظيفة استيطانية لخدمة الغرب، وكما قال بايدن:" لو لم تكن اسرائيل موجوده لاخترعنا اسرائيل".
نتج عن زرع هذا الكيان بين الدول العربية إحدى أعظم الكوارث الإنسانية التي حدثت في القرن العشرين، ولا يزال الفلسطينيون والعرب يعانون من هذا الكيان الذي لفظه العالم حتى يأذن الله بنصره الذي وعد به عباده المؤمنون.