شكلت معركة الأردن الدبلوماسية منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على غزة عامود الارتكاز العربي في موقفه الدافع لوقف العدوان والعودة إلى فتح القضية من جديد على طريق الخط السياسي لنزع فتيل الأزمات التي تتفجر في المنطقة على امتداد خمس وسبعون عاما وتهدد استقرار الجميع شعوبا ودولا، فقد كان الأردن واضحا في تحركاته ومواقفه إزاء الحق الفلسطيني واستند موقفه في المعركة إلى مواقفه الممتدة عبر السنين الماضية وقناعته أن لا حل لأزمات المنطقة إلا بإزالة الإحتلال عن الأراضي الفلسطينية وقيام الدولة التي يسعى أليها الأشقاء الفلسطينيون، وقد جاء تحرك الملك عبدالله الثاني منذ بداية الحرب ليشكل ضغطا كبيرا على السياسة الغربية واستطاع أن يخترق جبل الجليد باتجاه قناعات كثير من دول الغرب وإقناعهم أن الإحتلال هو أساس المشكلة وأن الفلسطيني يدافع عن نفسه بعد أن يئس من السياسة على امتداد أكثر من خمسين عاما، وأن ما يحدث في غزة اعتداء صارخ على المدنيين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم يعيشون على أرضهم في غزة .
لم يكن الملك مجاملا في حديثه مع كافة الأطراف حتى في اتصالاته مع الإدارة الأمريكية كان موقفه ثابتا يعتمد الأسس نفسها في القناعات حول أسباب الأزمة الأمر الذي جعل الأردن يقود الموقف العربي على الجبهة الدبلوماسية الصعبة في مواجهة إسرائيل واعتداءاتها ودعايتها أمام العالم، ونرى اليوم حجم التغير الذي استطاع الأردن أن يحدثه في العالم من خلال تغير المواقف نحو النظرة العادلة لصالح الشعب الفلسطيني، كذلك إدانة إسرائيل بحربها على غزة التي أصبح واضحا لكل العالم أنها حرب على الأطفال والنساء، وارتفع سقف المطالبات في كثير من الدول في العالم إلى معاقبة إسرائيل على فعلها كذلك قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، وباتت وتيرة الإحتجاج على إسرائيل في العالم ترتفع يوما بعد الآخر .
قوة الأردن الدبلوماسية وثبات موقفه قلب المعركة في كثير من جوانبها إلى جانب الشعب الفلسطيني، وهذه قناعة باتت راسخة لدى الفلسطينيين أنفسهم، وبات الفلسطينيون يعتمدون على الموقف الأردني ويثقون به لأنه أثبت عبر كل عقود الأزمة وتفرعاتها أنه كاد أن يكون الوحيد وضوحا وصدقا على الأرض .
جعلت الحرب على غزة الأردن إضافة إلى ضغوطات الجبهة الدبلوماسية وتعقيداتها أن يتحمل كلفا أمنية واقتصادية وعسكرية، فالأردنيون اليوم غاضبون ولا يكادون يتركون الشارع بمئات الألوف، وهذا يرتب على الأجهزة الأمنية الأردنية عبئا كبيرا في حفظ أمن الناس وعدم السماح باختراق صفوفهم ومسيراتهم ليعبروا عن مشاعرهم تجاه أشقائهم الفلسطينيين وحمايتهم من الطابور الخامس لتشويه وجه الموقف الأردني إزاء ما يحدث في فلسطين، كذلك تربض فرق وكتائب الجيش العربي على الحدود في مهمة صعبة ومكلفة لحماية الأمن الوطني، فعلى الحد الشرقي تتحرش ميليشيات ذات ولاء إيراني بالأردن زاعمة أنها تقف هناك دعما للفلسطينيين وهؤلاء أجندتهم معروفه وبرامجهم مكشوفة، وعلى الحدود الشمالية ازداد الضغط على الأردن في حفظ حدوده خوفا من ميليشيات الظلام التى ربما ترى في الحرب على غزة فرصة لزيادة نشاطها ومحاولة اختراقها للحد الأردني، كل هذا بالطبع مكلف ماليا وبشريا يتحمله الأردن وحده، أما على الجانب الاقتصادي فمن المؤكد أننا سندفع فاتورة ليست بالبسيطة جراء الحرب وأبرز بنودها الجانب السياحي الذي من الطبيعي أن يتضرر كثيرا من التطورات المستجدة في المنطقة .
ومع كل هذه الظروف يستمر الأردن ملكا وحكومة وشعبا في مواصلة معركته في الدفاع عن الحق الفلسطيني كواجب قومي ورسالي وهو يقف اليوم على جبهة لا تقل أهمية وخطورة عن الجبهة العسكرية وذلك من خلال معاركه الدبلوماسية ومواقفه العنيدة التي يخرج منها كل مرة منتصرا لأنه صوت الاعتدال.
المعادلة الأردنية في هذه الحرب مختلفة عن معادلات الجميع في المنطقة ذلك لعلاقاته التاريخية مع القضية الفلسطينية، في الجانب الجغرافي والتاريخي والرسالي، وملف القضية الفلسطينية جزء من أجندته القومية ، وفي كثير من الأحيان وطنية ، ويضع الفلسطينيون ثقتهم به لشعورهم بأنه الأصدق معهم عبر كل مفاصل القضية ،والملك عبدالله الثاني يدرك ذلك جيدا لذا ينطلق في دفاعه ومواقفه من خلال هذه الأمانة وذاك الأمل.
على الجانب الآخر تدرك إسرائيل ذلك وبسبب هذا تحاول دائما عرقلة الدور الأردني ووضع الحواجز والعراقيل أمامه، لأن قيادتها تفهم جيدا عمق وقوة الفعل السياسي الأردني على الجبهة السياسية الدولية، والأقدر على تغيير مواقف كثيرة على هذه الجبهة باتجاه الصراع .
المعادلة الأردنية إزاء القضية الفلسطينية هي الأصعب، فمعركته في سبيل تحصيل الحقوق الفلسطينية تجعله في ذات الوقت أن يحافظ على مصالحه وأمنه بمعادلة حساسة ودقيقة .