دأب ما يسمى ب"محور المقاومة" على الاستثمار في القضية الفلسطينية، ورفع شعار تحرير فلسطين من دون تلبية متطلبات عناصر القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية الضرورية لتحقيق هذا الهدف، وصرفت الأموال الطائلة على برامج التسلُّح على حساب قوت الجماهير "ممن يطلقون عليهم المستضعفين" التي ادّعت الحديث باسمها من دون أن تحقّق أي إنجاز ملموس، لا بل خسرت المزيد من الأراضي التي ما زال بعضها محتلًّا حتى الآن.
كانت القضية الفلسطينية مهربًا دائمًا لها من استحقاقات التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وعملت على استغلال عواطف الجماهير وتجييشها، من خلال رفع الشعارات الحماسية التي ازدادت المسافة التي تفصلها عن الواقع، مع مرور الزمن، إلى درجة القطيعة.
لم تختلف طريقة محور المقاومة والممانعة في التعامل مع القضية الفلسطينية منذ أن سمعنا عنها، فقد ورث ادّعاء مقاومة "إسرائيل" والمخططات الأميركية في المنطقة، مع استخدام وسائله بصبغة دينية مذهبية بحتة لزوم تلبية حاجات الاندفاع الإيراني في المنطقة.
جرى تداول مصطلح محور المقاومة والممانعة في إعلام الأطراف المشاركة فيه منذ بداية الألفية الثالثة، على نحو خاصّ، ردًّا على إطلاق الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن مصطلح محور الشّر على عدة دول، من بينها إيران "رأس المحور".
فرضت إيران نفسها لاعبًا مباشرًا في الصراع العربي الإسرائيلي، واستغلت الكمّ الكبير من الإحباط الذي تعانيه الشعوب العربية للولوج إلى المنطقة بقوة، من باب التحريض على قتال إسرائيل وإطلاق التهديدات ضدّها، ومن خلال تسليح ودعم حزب الله في لبنان وحركتي الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، وتمكنت إيران وعن طريق رفع شعارات الصمود والتصدي العروبية، والتوازن الاستراتيجي مع دولة العدو، من تصدير ثورتها والهيمنة على المنطقة، واستطاعت ولو رمزياً تأسيس الهلال الشيعي.
وفي تحذير مبكّر من خطورة الدور الإيراني في المنطقة، أشار الملك عبد الله الثاني، في تصريح إلى صحيفة واشنطن بوست الأميركية في عام 2004، إلى مخاوف متعلقة بظهور حكومة في بغداد - بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003- تخضع للنفوذ الإيراني، ما يفضي إلى تشكيل هلال شيعي يمتد من البحرين عبر إيران والعراق وصولًا إلى سورية ولبنان، وما قد يحدثه ذلك من اضطراب في استقرار المنطقة، وهو ما حدث بالفعل، فاحتكر تنظيم حزب الله كتشكيل عقائدي – عسكري المقاومة ضد "إسرائيل" في الجنوب بقوة السلاح، بعد تهميش دور المقاومة الوطنية اللبنانية، ذات الأطياف السياسية والطائفية المتعددة، بمساعدة من النظام السوري الذي كانت له اليد العليا في لبنان، ليتجاوز فكرة المظلومية الشيعية التي قامت على أساسها حركة المحرومين بقيادة موسى الصدر وانبثقت منها حركة "أمل".
من جهة ثانية، حرص الإيرانيون على إضفاء الطابع الإسلامي العام لتدخلهم في شؤون المنطقة، فشجعوا ودعموا المنظمات الفلسطينية السنية الطامحة لتحلّ محل منظمة التحرير الفلسطينية، والتي استأثرت بقطاع غزة واستخدمته كمنطلق لمناوشة العدو.
غالباً ما يلجأ محور المقاومة والممانعة إلى تضخيم قدراته عبر إطلاق التصريحات المدوّية التي لا تتطابق مع قوة المحور الفعلية على الأرض، مقارنةً بفعالية وحجم قدرات الكيان الصهيوني وحلفائه، فباستثناء عمليات حزب الله التي ساهمت في انسحاب العدو من لبنان، والتخلي عن حليفها "جيش لبنان الجنوبي" عام 2000، كانت ولا زالت معظم أعمال المقاومة عبارة عن مناوشات استعراضية وخاسرة تسبّبت بسقوط المزيد من الضحايا وألحقت الدمار الهائل بالبنية التحتية في كلٍّ من لبنان وقطاع غزة.
تتبادل أطراف محور المقاومة والممانعة الأدوار تحت مظلة النظام الإيراني الذي يدير سياسات المحور ويحدّد لكل طرفٍ دوره ومهمّته فيه، بإشراف مباشر من الحرس الثوري التابع مباشرةً إلى سلطة الولي الفقيه.
أما دعم إيران لحركتي حماس والجهاد في قطاع غزة، وإن كان يحرج أعداء نظام ولاية الفقيه في المنطقة، بخاصةٍ دول الخليج، ويمنح سياسات إيران طابعًا إسلاميًا عامًا، كما يوفّر لها بعض الدعم من قبل الشعوب العربية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، إلا أنه واقعياً لا يعدو كونه من أجل تطوير قدراتها العسكرية العلنية منها والسرية، وخاصة بناء مشروعها النووي والصاروخي، بحيث تدفع أذرع محور المقاومة والممانعة الممتدة في المنطقة الثمن ويبقى المركز "إيران" في أمانٍ نسبي، ليكمل مشروعه الأهم وهو نشر التشيُّع في مناطق النفوذ كأرضية ملائمة لتمرير سياسات إيران العقائدية والاجتماعية.
منذ انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر وحال محور الممانعة على حاله، التصريح هو ذاته دون تغيير أو تبديل، " إن اجتاح العدو براً، لا نضمن أن لا تتسع المواجهة"، والواقع يقول أن الكيان الصهيوني غير معني بالتصريحات الإيرانية المندّدة بها، ولا يضيره مثل هذا الخطاب، بل إنه يصب في مصلحته لاستجداء كل الغرب، بل ما يقلق كيان العدو أشدّ القلق هو فقط المشروع النووي الإيراني والسلاح الصاروخي ، ويجعلها تعمل بلا كلل على مكافحته بالوسائل كافة، مثل تحريض حلفائها في الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، وتخشى ضربها من الأراضي السورية المستباحة حاليًا. مع ذلك، لا يبدو أن المناوشات التي تحدث بين حزب الله والإسرائيليين ستتطور إلى حربٍ شاملة، وأما التهديدات والمناوشات فلا تعدو كونها بالونات صوتية، كطابات السيد السابقة، ذلك أن "إسرائيل"، في الحد الأدنى، ليست في وارد شنّ حرب ولذلك لجأت إلى المجتمع الدولي وحملته المسؤولية، وحثّت الولايات المتحدة على استلام جبهة حزب الله في حال فكر ولو جزئياً توسيع رقعة الحرب، كما إن اشتباكات حزب الله مع قوات العدو على الحدود صارت مدروسة بعناية حتى الآن لتفادي أي تصعيد كبير، علماً أن أكثر من 40 من مقاتلي حزب الله لقوا حتفهم، ولكن الحزب يعلم تماماً ان تكاليف إعادة الإعمار في ظل فراغ خزائن الدولة ستكون كبيرة، ويعلم ان دول الخليج التي موّلت إعادة الإعمار في 2006 لن تسارع إلى المساعدة هذه المرة نظرا لاضطلاع حزب الله بدور أكبر في لبنان.
لا غرابة في خطاب سيد الجنوب، والذي جاء ذلك بعد 4 اسابيع، من ترويج الإعلام والمحللين السياسيين، والأبواق التابعة له ولإيران، على أن صمته يرعب العدو، وانه سيظهر في اللحظة الحرجة ليقلب الموازين، ويحرق إسرائيل نصرة لغزة وفلسطين وبيت المقدس، التي لطالما تاجر بها، طوال عقود من الزمن، وذبح أهالي سوريا ولبنان والعراق واليمن، باسم القضية الفلسطينية العادلة.
خطاب سيد الجنوب، الكثير من الإنشاء والاستعراض والقليل من المضمون، كل ما أراد إيصاله كانت رسالة إلى المجتمع الدولي أن إيران بريئة من كل أفعال حماس، وحاول الخروج من معادلة الحرب مع أنه في نهاية الخطاب ترك الباب موارباً بعض الشيء، لكن هذا لا يتعدى كونه إكمالاً للدعاية المتواصلة، كعامود الإرسال الذي يقصفه منذ الثامن من اكتوبر، ومازال صامداً.
في هذا السياق، وعلى الرغم من وجود توتر على الجبهة الشمالية منذ اندلاع المواجهة، إلا أن الجبهة لم تشارك بما يتناسب مع حجم العنف الذي تمارسه إسرائيل في القطاع أو بما يمكن أن يشتت الجيش الإسرائيلي، كما إدعى سيد الجنوب، ولا يشبه ما يحدث في غزة من معركة مفتوحة براً وبحراً وجواً.
فور انتهاء الخطاب آثر الاعلام الصهيوني وحرص على أن يكون صاحب أول ردة فعل، فقد علق الصحفي التابع لجيش الاحتلال الصهيوني، إيدي كوهين، على الخطاب عبر فيه صراحة عن خذلان غزة وعدم دخوله في الحرب إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية.
وقال كوهين، في منشور على منصات التواصل الاجتماعي، "سماحة السيد حسن نصر الله شكرا لك على خطابك العقلاني تجاه دولتنا ونثني على كلامك وسحب عبارة انكم ستتدخلون اذا حدث التدخل البري".، وأضاف: "نحن في تل ابيب نتفهم حاجتكم لبعض عبارات الحماسة والتهديد والوعيد فهي ضرورية لقطيع الأغنام والبقر الذي ترعونه، دمت ذخرًا لدعم صمود دولتنا".
وأضاف في منشور آخر: السيد عرف أن مصلحته في سوريا والعراق واليمن شو بده بمسجد عمر بن الخطاب وقبة الصخرة الي بناها عبدالملك بن مروان والأقصى في المذهب الجعفري في السماء الرابعة هلا السيد يزرع حشيش ويبيعه هون وهونيك عشان يمول جيبة إيران بعد الحصار الاقتصادي ويخفف عنها تمويل الحزب المقدس.
من جهة أخرى وبالرجوع إلى مرتكزات العقيدة الإمامية، وهي العقيدة التي اتخذها الحزب في لبنان، نجد أن الجهاد في أساسه أصلاً تم تعطيله إلى حين خروج الامام في فترة الظهور الكبرى، والذي سوف يتولى أمور الجهاد، والحكم بحكم آل داوود، وهدم الكعبة، فقتال أهل السنة ثم إخراج أبو بكر وعمر ابن الخطاب من قبريهما وصلبهما قبل حرقهما، فكيف لهذا الحزب أن يرفع الظلم عن غزة؟.
الشعارات التي يسوقها حزب الله وإيران، ومن يدور في فلكهم ، ممن يتاجر بقضية فلسطين والصراع مع العدو الصهيوني لتمرير أهداف أطرافه الخاصة ما هي إلا تكميم للأفواه وتحويل البشر إلى مجرد أرقام في خدمة الاستبداد أو السعار المذهبي والطائفي.
وأخيراً...
لم تكن العلاقات الإيرانية مع العدو الصهيوني تاريخيًا سيئة، فقد كانت على ما يرام منذ إنشاء الدولة وحتى اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 عندما عملت إيران الخمينية على عكس العلاقة التي كانت سائدة بين نظام الشاه والعدو الصهيوني، فاستبدلت سفارته في طهران بسفارة فلسطين.
لكنّ إطلاق الشعارات المعادية لإسرائيل بعد الثورة لم يمنع، تحت ضغط الحاجة والمصلحة، من تعاون الدولتين سرًا في أثناء الحرب العراقية–الإيرانية ومبادلة الأسلحة الإسرائيلية بالنفط الإيراني، وكلنا على دراية تامة بما يسمى "إيران غيت"، ما حال دون تحقيق انتصار سريع للعراق من جهة، ورفع خطر ثورة الخميني عن الجالية اليهودية في إيران من جهة ثانية. كما قدّم الكيان الصهيوني خدمةً لا تُقدّر بثمن إلى إيران في أثناء هذه الحرب مع العراق عام 1981، حين دمرت مفاعل "أوزيراك" النووي العراقي.
أما على الجانب السوري، فبعد انسحاب مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي، و توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978، استحال حصول أي حرب أو كسبها ضدّ إسرائيل، أو حتى أي نوع من المواجهة الفعلية للحلف الأميركي–الإسرائيلي، قاد بعدها النظام السوري حملة إعلامية رافضة للاتفاقية، إلى جانب المنظمات الفلسطينية وقوى اليسار على امتداد العالم العربي، علماً أنه كان قد وقّع اتفاقية الهدنة في عام 1974، والتي صمدت حتى الآن وحقّقت لدولة العدو أمانًا لم تكن لتحلم به، فكانت جبهة الجولان هي الأهدأ طوال أكثر من أربعة عقود، وما زالت.
الأفضل لإيران وحزب الله النزول إلى الأرض بدلًا من التحليق، فأشلاء أطفال غزة ملأت الأزقة والشوارع، والشعب الفلسطيني لم يعد يتحمل، وشبع كلامًا فارغًا، وبالنهاية لن يتشيع هذا الشعب، بل سيبقى يجاهد لنيل حريته واسترداد أرضه، وليس من أجل تمدد الدولة الإيرانية.
وسلامتكم..