لم يتوقف الاحتلال الصهيوني عن محاولاته الدؤوبة في تهجير الفلسطينيين كجزء من استراتيجيته لتفريغ الأرض من أهلها، وامتدت هذه الاستراتيجية إلى يومنا هذا في عدوانه الآثم على غزة، فقد أظهر إلى جانب التدمير والابادة خططه في تهجير أهل غزة من الشمال إلى الجنوب الغزّي، من باب تقطيع أوصال المدينة والاستحواذ على الأرض بالتدريج.
رغم مخالفته للقانون الدولي فيما يختص بالتهجير القسري والذي يندرج ضمن جرائم الحرب والابادة، لكن الكيان الصهيوني لم يأبه لتلك القوانين كما لو انها قد وضعت لغيره، فالمادة 49 من اتفاقية جنيف تشير صراحة إلى: "يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيًا كانت دواعيه".
فقد تفكك الحصار الصهيوني على غزة قليلا ولم يكن ذلك إلا عبر الضغط الدولي والعربي المحدود، وهو جزء من مناورات الكيان المحتل، حيث تم السماح لبعض الجرحى الغزيين من الخروج للمعالجة في مصر وبعض الدول التي استعدت لاستقبالهم، ولدي شكوك كبيرة في هذا التساهل حيث أعتقد أنه جزء غير مباشر من صورة التهجير بحجة العلاج، والعمل على تآكل الكتلة البشرية في غزة عبر أكثر من محاولة مراوِغة من قبل الاحتلال، والسؤال هل سيسمح للجرحى بالعودة إلى ديارهم؟.
والخطير بالأمر أن الجرحى يمثلون أعدادا كبيرة في المجتمع الغزّي المقاوم ويكون الكيان المحتل بهذا قد كسب فكرة ثعلبية قناعها الجانب الإنساني وباطنها التهجير بصورة ناعمة وسلسة وبرضا الدول العربية والعالم.
نكون بذلك أمام ممارسة ممنهجة تنفذها العسكرتاريا الصهيونية كجزء من التطهير العرقي وتفريغ غزة من أهلها قدر المستطاع، من خلال مجموعة من الممارسات كإشاعة الرعب والخوف والتضليل والضغط والاضطهاد والحصار والتجويع.
ويكون التهجير القسري إما مباشرا أي ترحيل السكان من مناطق سكناهم بالقوة، أو غير مباشر، عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة، باستخدام وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد، ووفق ما ورد في نظام روما الإنساني لـ المحكمة الجنائية الدولية، فإن "إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين يشكل جريمة ضد الإنسانية. وقد أدرك جلالة الملك عبدالله خطورة التهجير ووصفه "بالخط الأحمر" وهذا الأمر يؤشر على نوايا الكيان المحتل بتنفيذ مخططات معدة بشكل مسبق لهذا الغرض، والمهم في هذا التصريح هو الإعلان عن الخطر الداهم الذي يتعرض له الأردن والذي يتناغم مع القاعدة الشعبية التي ترفض ذلك.
فقد عرف التاريخ البشري العديد من حالات التهجير القسري لأسباب عديدة، منها النزاعات المسلحة، والصراعات ذات الطابع الديني أو العرقي، والتاريخ العربي مليء بتلك الأحداث وأبرزها قيام أهل مكة بإخراج الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام من مكة مرورا بالهجير القسري في الاندلس وتهجير ستالين لمسلمي القرم وصولا إلى تهجير الفلسطينيين، وتتجلى ظاهرة التهجير القسري في فلسطين، باعتبارها سياسة ممنهجة يتبعها الكيان الصهيوني وحلفاؤه، حيث اعتمد أسلوب الحصار ثم الترحيل الإجباري للسكان المدنيين في العديد من المدن والقرى الفلسطينية، كان التهجير عَامِلًا مركزيًّا في تَشْتيت المجتمع الفلسطيني، والاستيلاء على مُمْتَلَكَاته، بالإضافة إلى تَهْويد التاريخ الفلسطيني، والتهجير يشكل أحد أكبر الأخطار التي تهدد العالم، فواقع التهجير القسري بفلسطين يشكل النموذج الحي للعالم الذي يدعي الحضارة والانتصار لحقوق الانسان، فهم تناسوا الآثار النفسية والاجتماعية على المهجرين والتأثر المباشر على العجلة الإنتاجية للمجتمعات المهجرة، فجريمة التهجير القسري تتباين في أسبابها ودواعيها، ففي الحالة الفلسطينية واضحة لا لبس فيها فهي تنحو نحو توسعية واقتصادية ودينية عقائدية، وتنحصر في الاطماع والسطوات من خلال الفعل العسكري الأقسى في العالم، وذهاب الذين يديرونها الى الوحشية والهمجية والبربرية، وفي العالم المعاصر رافقت جريمة التهجير القسري حملات الدول الاستعمارية في السيطرة على الدول الأخرى، فوضعت المهجرين في ظروف مأساوية كوسيلة ضاغطة، فما نراه من اقتراحات مضحكة لتهجير اهل غزة إلى سينا ما هو إلا محاولة غاية في الخبث في سياق توطين جديد يعطي الكيان الصهيوني فرصة لكسب مساحة من الأرض، وما زلت محتشدا بالشكوك والخوف تجاه السماح للجرحى للعلاج خارج غزة، فاراه صورة من صور التهجير الناعم، والأجدى أن يتوفر لهم كل العلاجات اللازمة داخل غزة، فهل نحن أمام ترانسفير جديد للجرحى!..