عندما ينشب أي نزاع بين دولتين أو بين دولة وجماعة معادية لها على شكل حرب ينتج عنها دماراً وخراباً للممتلكات ومظاهر الحياة، وتشريداً وقتلاً وتشويهاً للإنسان ، يتبادر للأذهان الحديث عن العدالة. وقد أُسبِغ مفهوم العدالة على صور متعدّدة لتعريفاتها وفقاً للمراحل الزمنية أو للمفاهيم السائدة في كل بقعة من بقاع الأرض. إلّا أن التطور الحضاري بما اتفق عليه من مواثيق واتفاقيات جماعية وإقليمية تجمع على أن من مقتضيات العدالة التعامل مع الجميع من بني البشر بمساواة دون محاباة لعرق أو جنس أو دين أو لون ،وبحيث يتمتع الجميع بحقوقهم في الحريّة والكرامة والتعامل المتماثل ،تماماً كما نصت عليه المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 والعهود الدولية الخاصة بالحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية، ومعاقبة مخترقي هذه الحقوق وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998.
وأما البروبوغاندا فليس المقصود بها – كما يتصور البعض – أنها التوجيه المكثف للإعلام وتصوير حدث ما للجمهور – وخاصة الدهماء – على غير حقيقته وبخلاف واقعه، وبحيث يتحكم مختلقها بتفكير الآخرين وردّة أفعالهم تحقيقاً لهدف مُعيّن ولغاية محدّدة، بل أنها خليط من التكثيف الإعلامي الموجّه مع مبادئ اللاأخلاق الدنيئة والاحتيالية بما يُصاحبها من كذب وتزييف ودهاء حضاري ، يُصاغ بطريقة علمية وبوسائل تكنولوجية متقدّمة، وبحيث تثمر هذه الوسائل عن خلق وهمٍ يوازي الحقيقة ،وتكون ردّة فعل الجمهور على أن هذا الوهم هو الحقيقة.
وإذا جمعنا المصطلحين معاً (العدالة والبروبوغاندا) نكون أمام وجه قبيح للعدالة قوامة المكر والدهاء وأسلوب النفاق والمحاباة مُستبعدين حقيقة العدالة ومقتضياتها المعروفة.
وتبلغ الأمور أقصى مراحل السوء عندما تتعلق العدالة بحدث عالمي كالحروب، فبدلاً من اسقاط قواعد العدالة على النزاع يقوم أحد الأطراف بتحريف للحقائق وتزوير للوقائع وبناء مواقف تعادي الإنسانية والفطرة السليمة للبشر، وعلى شكل بروبوغاندا مُغلّفة بلباس مغاير لموجبات العدالة بمنطاره الأحادي لإقناع العالم الذي يراقب الحدث بصحة موقفه.
ليس بالأسابيع البعيدة عندما حذر جلالة الملك أمام مجلس الأمن الدولي من غياب العدالة العالمية في التعامل مع القضية الفلسطينية. وفعلاً كان من نتائج التمادي في مجافاة العدالة الحقّة وإحلال البروبوغاندا المعادية للمفاهيم الإنسانية بديلاً عنها ،ما نشهده من حرب تشنها إسرائيل على غزة.
اجتمعت قوى عاتية بأسلحة دمار فتاكة من القوى الغربية بمواجهة غزة. غزة هذه التي لا تزيد مساحتها عن (360) كم2 وعدد سكانها يقارب المليونين فقط، تحارب قوى جبارة متسلحة بكل ما هو مُحرّم استعماله من الأسلحة وما بلغ من قوة التقتيل مبلغه.
هؤلاء المهاجمون لغزة بمختلف شتاتهم يصفون حربهم بالعادلة ، يتناسون أنهم يهاجمون شعباً استولوا منذ أكثر من سبعين عام على أرضه وحاصروه في هذه البقعة من الأرض المسمّاة غزة، يصوّرون بمنطق البروبوغاندا المناضلين المكافحين من اجل وجودهم وحريّتهم المدافعين عن نسائهم وأطفالهم على أنهم إرهابيون مُعتدون، يقتلون الأطفال والنساء ويحرقون الأرض والممتلكات، يدمرون المدارس والمستشفيات، يُغلفون كل أفعالهم الإجرامية (بالبروبوغاندا) التي تناسبهم .وبالنتيجة يصورون الطرف الإسرائيلي على أنه الضحية وأن مقابلهم المدافعون عن غزة هم المعتدون.
البروبوغاندا المصاحبة لحرب إسرائيل الغاشمة وشركائها ومعاضيدها على غزة، فاقت قنابل أمريكا الذرية على اليابان دماراً، وفتكت بالناس أكثر من وباء كورونا، وقتلت أعداداً تفوق أعداد قتلى الزلازل التي اهتزّت لها أركان الأرض. نعم، هذه الجرائم الشنيعة يسوقها صنّاعها على أنها اقترافات عادلة، وهي في حقيقتها عدالة البروبوغاندا التي صنعوها، وسوّقوها على شعوبٍ وساسةٍ بدأ البعض منهم الإفاقة ومعرفة الزيف الذي يسوقه الجانب الإسرائيلي ومؤيدوه.
عدالة البروبوغاندا تبيح كل صنوف القتل وتمنح إسرائيل حق التشريد والدمار للمدنيين، وتوجيه إنذارات لأهل غزة لمغادرتها ،ولا يدخل في عناصر تعريفها آلاف الأطفال تحت الأنقاض ليس بالإمكان إنقاذهم وانتشال جُثثهم، لم تعرف عدالتهم أن أهل غزة يكتبون أسماءهم على أجسادهم لكي يتم التعرف عليهم بعد استشهادهم لأنهم يعرفون مصيرهم المحتوم،ولم تعرف ان اشلاء الأطفال والنساء يصعب جمعها بسبب كثافة القصف، ولم تعرف أن العام الدراسي لن يبدأ في غزة لا بسبب الحرب ولكن لأن الطلاب قتلوا أو أصيبوا.
عدالة تقوم على أن الدم الفلسطيني رخيص والدم الإسرائيلي غالٍ، وان الكرامة والحريّة والحقوق هي حصراً للإسرائيليين وليس للفلسطينيين نصيبٌ منها، إنها العدالة العمياء الكسيحة المبتورة أخلاقاً وإنسانية.
يسوّقون عدالتهم علينا ويتفننون في الظلم، يمارسونه ويُعينون عليه، فهل نبقى نسمع لزيفهم ونصدق أكاذيبهم، وهل نحفل بمواثيق وعهود واتفاقيات دولية لا يلقون لها بالاً ويفرضون علينا الانصياع لها.
عدالتهم التي تنتهك القانون الدولي لحقوق النسان والقانون الإنساني الدولي، إنها عدالة البروبوغاندا.
عدالة لا بوركت في السماء ولا مُجّدت في الأرض.