حتى اللحظة المشهد في غزة يحمل أبعاداً لمأساة كبرى، بطبيعة الحال كشفت عن زيف الكثير من المفاهيم العالمية، وعن عالمٍ غير معهودٍ بازدواجية معاييره، وتعاطيه مع مسألة إبادة نحو 3 مليون إنسانٍ فلسطيني، بمعايير مفضوحة.
على الأرض تخوض فصائل المقاومة معركة أسطورية من الصمود، وما يزال الأمل والدعاء لها، بأن تبقى صامدة.. في المشهد المقابل نرى حكومة "مهلهلة" تريد بأيّ ثمن كان أن تصنع أي نصر.. أي نصر مهما كانت كلفه، ومهما كان شكله، ومهما كانت طبيعته، وبغض النظر عن نتائجه الإنسانية، وخسائره.
إذ تدرك حكومة نتنياهو أن اليوم التالي لوقف الحرب سيكون نهاية لها، ولكنها لا تدرك أن كلف بقائها في السلطة، مع استمرار آلة الحرب هذه، ستكون أكبر على صورة إسرائيل ككل، وأن ما حازته من غطاءٍ غربي يخول لها الذهاب بتجاوزاتها، ويعطيها صكاً مفتوحاً للنيل من دماء الأبرياء، سيجعل منها تخرج كـ "دولة" ضعيفةٍ، بات العالم والرأي العام ليس العربي وحده، بل وفي أنحاء من العالم ينظر لها على أنها ترسانة قتلٍ خالية من القيم، ومخفر متقدم لبعض التيارات الممتدة حساباتها إلى خارج المنطقة.
وقد تكون إدارة بايدن، وأنصارها أيضاً، في حسابات حرب غزة خاسرون.. فما منحته الإدارة الأميركية لحكومة نتنياهو من دعم، على أمل تسويقه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كشف عن تضعضعٍ أكبر في الولايات المتحدة نفسها، والتي بات موظفون في وزاراتها، مثل الخارجية وغيرها، يستقيلون احتجاجاً على الانحياز الكامل لإسرائيل.
ومن تابع جلسة استجواب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الكونغرس، والتي تخللها تجمع عشرات المحتجين الغاضبين، ورأى مشهد رفع الأيادي الحمراء، في دلالة على تلطخ أيادي هذه الإدارة بالدم، يدرك أن غزة تعيد إنتاج المشهد حتى في الولايات المتحدة، وهناك دعوات لمسيرةٍ مليونية في قلب واشنطن يوم الجمعة المقبل.
وحواضر أخرى من العالم، أوروبية وغير أوروبية، تتحرك وترفع صوتها.. فغزة اليوم تختبر العالم، وصيحات وويلات أطفالها وشيوخها، من قصف المحتل الغاشم، يعيد فرز وتصنيف العالم عمودياً وأفقياً.
وإن كان اليوم جرأة الظلم كبيرة على الغزيين الذين يواجهون تحالفاً غير مسبوق ضدهم، فإن صوت الحق يعلو أكثر المطالب في مواجهة "دوامة الموت" التي صنعها الاحتلال.
فلأول مرةٍ يخرج أمين عامٍ للأمم المتحدة ناقداً لإسرائيل وظلمها على مدار سبعة عقود، وقد نال أنطونيو غوتيرش ما ناله من صيحات الإسرائيليين في الأمم المتحدة، إلا أن الرجل آثر وحاول أن يكون استئنائياً في حديثه عن الظلم.
غزة اليوم، تعيد إنتاج وعي بشريٍ يمتد من منطقتنا إلى العالم، في ما تتعرض له من ظلمٍ، واليوم التالي لوقف هذه المأساة التي يبدو أنها أكبر مما تستوعبه كاميرات التلفزة العالمية، وتنقله إلينا، إلا أن هذه الأيام ستبقى شاهدة على عالمٍ كنا نعتقد أنه يشبه القيم التي أتعبونا بها.. كان الله في عون الغزيين، والفلسطينيين في الضفة، وحتى في الداخل، وكان الله معهم.