لم تعد أطماع الكيان الصهيوني خافية على أحد، فكل ما فعلناه سابقا مع الاحتلال الصهيوني والدول الكولونيالية هو محض تغميس خارج الصحن، فغزة ومقاومتها للاحتلال ليس بجديد فهي مقاومة منذ العام 1948 وما قبلها وكانت أنساق المفاوضات الصغيرة السرية والعلنية تندرج تحت عنوان تضميد الجرح لا علاجه.
ما يحدث الآن من إبادة في غزّة ليس غامضا بل هو امتداد للفكر الاستعماري الذي لم يتزحزح من ذاكرة الدول الاستعمارية رغم تغير أشكال الاستعمار، الاستعمار التكنولوجي والزراعي والسياسي وصولا إلى المنظومة التربوية التي تفرض على شعوبنا من خلال تسريبات ناعمة هنا وهناك.
فهي حرب متواصلة بتغير أشكالها، هذه الدولة الكولونيالية التي رعاها الاستعمار البريطانيّ ثم تبنتها الإمبريالية الأميركية، وبذلك رأينا دولة الضحية المزيفة التي تتلقى دعما منقطع النظير من الدول الاستعمارية، وبذلك انفجر في غزة نموذج الحقد المركب الذي لا يأبه لما يسمونه القوانين الدولية، فهي الدولة القاتلة باسم القانون وفوقه كذلك.
طفولتي التي شهدت أول انتصار عربي في العام 1968 حين تعاضد الجندي الأردني والفدائي والناس في معركة الأمة معركة الكرامة وكسرت منظومة الجيش الذي لا يقهر، كنا نشاهد المجنزرات الإسرائيلية المحروقة فرحين بانتصار اسطوري، حينها كان الحلم لم يزل طازجا في الضمير الجمعي العربي، لكن التغيرات التي عطبت السلطات العربية وطبيعة اخراس شعوبها قد غيّر من المعادلة فبرزت الفرجة الدموية على فيلم رعب لم تحققه سينما هولوود في أدبياتها، فصرنا كمن ينظر من ثقب الباب إلى الجريمة البشعة التي ترتكبها الصهيونية مدعومة من دول الاستعمار الرأسمالي، وهي إشارة قوية على الأطماع الاقتصادية القادمة في مسارات الملاحة وانابيب الغاز وبورصات الإنتاج.
نعرف ذلك لكننا في كل يوم نزرع شهيدا يورق كجميزة أغصانها في السماء وجذورها في الأرض، في الفجر نستيقِظ من نومنا كموتى خائفين، فكلّما فتحنا أعيننا نفزع على موت هناك، كأن أيامنا صارت رائحة للبارود وموسيقى مرعبة لصراخ الأمهات، لكن ثمة شجرة زيتون تطرح زيتها لتضيء عتمة الردم، وخلفَ دُخان المعارك ثمة ابتسامة مقاوم مشى خطوة نحو المجد، فصار كغيمة حمراء تصعد زرقة السماء، لم تزل غزة بوصلة الحلم وبوابة الضوء الفاضح لعورة القاتل، ضوء كشف الغطاء عن رائحة عطن، فما يحدث الآن في غزّة كشف الغطاء كاملا عن مكنزمات المستعمر المحتل ومن والاه، فغزة إبادة مرحلية لما بعدها، فهذا العدو لا عهد له مع أحد ولا يعر أي انتباه لكل الاتفاقيات التي ابرمها مع الدول، بالاتفاقيات جزء مرحلي من حربه على المنطقة، توسع بشقين الشق الناعم عبر الدبلوماسية والشق الآخر القسوة العسكرية، وفي كلتا الحالتين هي حرب مستمرة وشرسة على مستقبل المنطقة برمتها.
فقد نجحت الصهيونية في تحييد بعض الدول العربية من معادلة الحرب، وهذا يعتبر انجاز مذهل بالنسبة لهم، وسارت في قنوات التحييد والتفكيك لتنفرد بفلسطين كلها،
بين غزّة الآن ونحن عهد لم يتحقق فصرنا نستجدي القاتل لتسمين الضحية عبر وساطات إيصال الغذاء والدواء وغيرها من أدوات الحياة، لم يتغير شيء فالمسار ذاته فحين برزت الانتفاضة في الثمانينيات من القرن السابق والتي كانت جزء من أمل الفلسطينيين في التحرر تم اخمادها بطرق عديدة ومعقدة، لقد تغيرنا ولم تتغير عقيدة القاتل، لم نعد نؤمن بالنصر كما لو أننا قد سلّمنا أمرنا للغيب، ولم نتعض ونتعلم من فيتنام التي هزمت بعزيمة شعبها أعتى القوى الامبريالية، يبدو أننا تعودنا على سياقات الهزائم المتتالية، ولم نعد نصدق ما تفعله المقاومة من إنجازات كسرت وجه القوة المزعومة في الكيان الصهيوني.
وما قدوم حاملات الطائرات إلا صورة من صور الهزيمة، هزيمة المشروع البعيد في الشرق الأوسط، فما نرصده من صمود أسطوري يحتاج إلى حاضنة قوية ستنعكس على المكاسب السياسية والوجود العربي في العالم، فهي فرصة لتغيير الصورة النمطية لعالمنا العربي الذي بات مفككا في توجهاته وقراراته، فلم ندرك قوة الحياة لدى الفرد الغزّي حين يصحو الطفل وفي فمه شمسا للحرية، والأمهات اللواتي يدفن أبنائهن بوابل من الزغاريد والمقاوم الذي ينتظر بحماسة الفارس عدوه دون وَجَل أو تقاعس، تلك العزيمة التي تفيض عن حلمنا العربي الضيق، وما زلنا في خضم الإبادة نغمّس خارج الصحن، ونترك للفرجة أن تتجلى على موائدنا السياسية، وهنا لا بد من الإشادة بالدور الأردني الدؤوب في خطابه الثابت تجاه فلسطين، ويكاد يكون النتوء الوحيد بين ما سمعناه من مواربات كلامية، فالخطر داهم على الجميع، الا اذا ما زلنا نؤمن بالصداقة مع العدو، فالعدو واضح أكثر منا في كل ما يذهب إليه، ولا نريد تصديقه.
فمفهوم المقاومة ارتبط منذ القدم بالذهنية العربية لما شاهدته من وقائع مريرة ومتتالية حيث حاولت معها الشعوب العربية تتصدى للظلم لكن ما قام به العدو من تربويات سياسية ساهمت في تبدلات ليست بالقليلة في منظومة المجتمعات العربية، دون إغفال القلة التي لم تزل تقبض على التراب، فقد آن الأوان للفعل لا الفرجة والتغميس من صحن العزة لا خارجه.
لقد انهزم العدو وما زال يعاني من الارتباك وهذه فرصة ذهبية كي نحول تلك الإنجازات إلى أفعال في القرارات السياسية ومفاهيم التعامل مع الفكر الصهيوني وتجلياته في الاقتصاد والسياسة.