إن تاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني والعرب هو صراع هوية، حيث تنتظم سلوكيات المحتل في مساحة المحو والتهجير القسري وسرقة التراث وصولا إلى تغيير أسماء الأمكنة من باب البحث عن صورة جديدة للمكان ونزح كينونته الممتدة من خلال الكذب الإعلامي والمناهج التربوية للاحتلال.
فبواعث التهجير والنزوح والارتحال ثيمات أساسية في مكونات هوية مرتبكة بشكل عام، لكن الفلسطيني لم يفقد بوصلته تجاه ذكرياته الأولى وظل يحمل مفتاح بيته أينما حلّ وارتحل، فالمنفى صورة قاسية من صور إما التمسك بالهوية وإعادة انتاجها بصورة حيّة أو صورة أخرى للنسيان، فهما صورتان متناقضتان بين المحو والتذكر، فقد شكّل الهاجس الهووي في حياة المنفيين ثنائية قاسية تتأرجح بين الذاكرة الأولى والذاكرة الجديدة، لكننا نستطيع أن نقبض على قوة تمسك الفلسطيني بهويته من خلال قوة وفاعلية النوستالجيا والتي قادت المنفيين إلى الإبداع في مقاومة المحو ونفي الذات.
فالهويّة في الادبيات الفلسفية هي حقيقة الشيء المطلقة، والتي تحتوي على صفاته الجوهريّة وتميّزه عن غيره، كما أنها الخاصيّة المطابقة للشيء نفسه، ومن هنا فإنّ الهويّة الثقافيّة لمجتمعٍ ما تعتبر القدر الثابت والجوهري في وجود المجتمعات، والتي تميّز حضارة عن أخرى، حيث نرى إلى أن الاحتلال صراع بين هويتين هوية أصيلة متجذرة في المكان وهوية طارئة وعابرة.
وأذكر هنا مقطع من قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش "عابرون في كلام عابر" والتي تم مناقشتها في الكينسيت الإسرائيلي لما تحملة من دلالات على نهايات إسرائيل في المستقبل، حيث يقول: فاخرجوا من ارضنا من برنا... من بحرنا، من قمحنا... من ملحنا... من جرحنا، من كل شيء، واخرجوا من مفردات الذاكرة، ايها المارون بين الكلمات العابر.
وإذا كانت الحرب بين جيش محتل ومقاومة فهي صورة من صراع الوجود والهوية، هويتان أو إرادتان بازغتان من هويتين، هوية المحتل بقوة السلاح وهوية صاحب الأرض المقاوم في سبيل الحفاظ على وجوده البعيد والقريب، وليس هناك من احتلال وجلب قواته العسكرية حاملة لهوية مستعمرة جديدة، فجوهر الاحتلال ليس بأدواته العسكرية وإنما لفرض هويته الجديدة في المكان المغتصب، وما يجتاح العالم الآن هو حروب الهويات والصراعات الأيديولوجية، فما أن برزت وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلفها منصات الدراما الدولية والمحطات الفضائية العالمية ودخل الإنترنت إلى كل بيت وأصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان أصبحت الهوية في أشد أوقاتها مقاومة، بل وضعت على المحك في مواجهة هويات عديدة تدخل كل بيت، إننا نقف اليوم أمام سيل من التحديات التي تواجه هويتنا ولا بد من العثور على حلول لتلافيها آثارها السلبية على المدى البعيد، لأن الحروب تأتي في الغالب على هيئة أفكار مع اختلاف الصياغة التي يتم من خلالها تعبئة تلك الأفكار، سواء صياغة تليفزيونية أو سينمائية أو حتى إعلامية عابرة للقارات.
لذلك قامت الصهيونية بصرف المليارات في القنوات الفضائية لتسريب أفكارها المزيفة بل واستعانت بأشخاص لهم متابعين ومؤثرين لتبني سرديتهم، واستطاعت إلى حد كبير في تضليل كثير من الأفراد والمؤسسات عبر تكرار المعلومة المزيفة حتى تصبح حقيقة، هنا يتحتم علينا إيلاء المناهج التربوية القيمة العليا لتطوير الوعي بالهوية بكل ما يندرج تحتها من قيم ومفاهيم، كمصل مضاد لكل ما هو متطرف وكل ما هو هدّام، ومن جهة أخرى بناء وشائج من الرمزية العاطفية بين المنظومة الاجتماعية والقوى السياسية، فالحشود تحتاج إلى قناعات فاعلة حتى تشكل قوة رافعة للقرار السياسي، ونستطيع أن ندرك مدى ارتباك القرار السياسي للمحتل الإسرائيلي حين بدأت تحولات الرأي العالمي بالوقوف بجانب قضية غزة، وكذلك حراك المجتمع الإسرائيلي الضاغط على رئيس الحكومة كواحد من عوامل هزيمته ونجاح المقاومة في تفنيد الأكاذيب التي حاول نتنياهو ان يرمم فيها صورة الهزيمة، والشعور بتهتكات الهوية التي أراد لها أن تعيش بالقوة العسكرية، وبرزت جملة لم تكن موجودة من قبل "نكون أو لا نكون" وهي صورة أخرى للانتحار السياسي لحكومة نتنياهو، ولكن لم نزل نعاني من توحيد الخطاب الإعلامي العربي اتجاه مسألة غزة وحروب الإبادة وهي الفرصة الأخيرة لنا كعرب لحصد نجاحات سياسية مهمة، فلم نستثمر حالة الارباك لدى الكيان المحتل، لا بد من صياغات إعلامية جديدة تخاطب العالم بعيدا على الجموع المحلية التي هي بالأصل على دراية كاملة بالحق الفلسطيني.
يبقى الصراع بين العرب والاحتلال صراع هوية ووجود..