حين يجادف العالم ضد تيار الفطرة الانسانية
الدكتور موسى الرحامنة
31-10-2023 11:24 AM
هل ثمَّة أمكانية لمقاضاة إسرائيل وتقرير مسؤوليتها عن انتهاكاتها الجسيمة في الحرب على غزة ؟..
في الوقت الذي تتباكى فيه منظمة الصحة العالمية على وضع المصابين الاسرائليين في الهجوم الاخير الذي قامت به حركة المقاومة الاسلامية حماس في منطقة غلاف غزة؛ وتأكيدها على ضرورة تأمين الدعم النفسي اللازم لمصابي إسرائيل جراء هذا الهجوم؛ لم نجد باكياً أو شاكياً أو من يحرك ساكناً من فريق هذه المنظمة إزاء ضحايا قطاع غزة من الفلسطينيين الذي سقطوا في العدوان الهمجي ومعظهم من الاطفال والنساء؛ ولم تأتِ هذه المنظمة على ذكر انهيار المنظومة الصحية في القطاع على أثر هذه الابادة؛ وكذلك نقص الوقود ونفاذه مما تبقى من مستشفيات ومستوصفات طبية.
تُرى لماذا يتواطأ العالم بأسره دولاً ومنظمات دولية؛ ضد قضايانا التي تكون إسرائيل طرفاً فيها؟ ولماذا يجادف هذا العالم ضد تيار الفطرة الانسانية؟ فمنذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب الأخيرة تهافت كل زعماء الغرب الإستعماري على تل أبيب يقدمون لها الولاء والدعم ويؤكدون الوقوف الى جانبها بالمال والرجال؛ ويشدون على يدها في القضاء على المقاومة الفلسطينية؛ لا بل يؤكدون على تشكيل تحالف دولي لضرب المقاومة واعتبارها داعش جديد في المنطقة.
لقد أظهر الغرب قاطبة بغضه وحقده واستعدائه للعالم العربي والاسلامي؛ فلم يتورّع مسؤول غربي زار المنطقة على إدانة إسرائيل، بل وجدنا أن التصريحات كلها تصب في صالح إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها؛ وهو ما اعتبرته إسرائيل غطاء شرعياً يبرر كل ما تقوم به من تدمير وتقتيل وإبادة لكل شيء على ارض غزة؛ فلم يشهد التاريخ الحديث جرائم بهذه الجسامة وهذا والوصف؛ فجُلُّ الضحايا من الأطفال والنساء وقد طال القصف كل المساجد، والكنائس، والمدارس، والمستشفيات. وهو ما عبَّرت عنه فرانشيسكا البانيز مقررة الأمم المتحدة الخاصة بانتهاكات حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية حين قالت ان ما يجري هو كارثة سياسية ذات ابعاد إنسانية اسطورية؛ وانتقدت استجابة المجتمع الغربي؛ ووصفتها بالاستجابة غير المسؤولة والتي لم تتعامل مع يجري بحكمة وانصاف.
ماذا صنع العالم الغربي وهو يرى إسرائيل تفتك وتنتهك كل الأعراف والقيم التي درجت عليها الإنسانية منذ الازل؛ وماذا عسى أن يكون موقفه من انتهاكاتها لكل الاتفاقيات والشرائع الدولية؛ سينزلق العالم نحو المجهول بسبب هذا التغوّل وغياب نصرة الحق وإعانة إسرائيل على الباطل.
لقد أكدت الطريقة التي عبَّر فيها الغرب عن دعمه لإسرائيل؛ حجم الإهانة الواضحة والاستهانة بكرامة الانسان العربي؛ الذي أصبح اليوم أرخص المخلوقات وأحطها قدراً وشأناً في ثقافة دوائر الغرب؛ لقد بلغ الاجحاف والظلم والاحتقار مبلغه؛ فالغرب لا ينظر الى الصراع في فلسطين إلا على أنه صراع بين دولتين وليس صراع بين محتل ومقاومة مشروعة؛ ونحن نرى هذا الانفصام الغربي في التعاطي مع الازمات في هذا العالم؛ ينتابنا شعور الحقد والكراهية إزاء مسلك الغرب غير المنصف ؛ فموقفه من العدوان الروسي على أوكرانيا في مقابل موقفه من العدوان الصهيوني المحتل لأراضي فلسطين يعكس صورة الغرب الحقيقية في التعاطي مع الملف الفلسطيني بالذات وهذا الانحياز البغيض الاعمى وغير العادل.
والمضحك المبكي؛ أن إسرائيل وهي الدولة الأكثر إجراماً في منظومة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة؛ تُصنف اليوم بانها دولة محبة للسلام (Peace Loving State) ؛ ففي عام 1949 وكانت للتو قد خرجت من الحرب عام 1948 واحتلت الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الغربية وتحت سمع وبصر العالم كله لتتقدم لمجلس الامن الدولي بطلب الاعتراف لتصبح عضوا في الأمم المتحدة؛ فيوصي مجلس الامن الى الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بها وقبولها عضواً كونها محبة للسلام وتلتزم بمبادئ الأمم المتحدة؛ ومعلوم أن أهم مبادئ الأمم المتحدة مبدأ تحريم العدوان وعدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة؛ غريب عجيب أمر هذا العالم ؛ فدولة خرجت للتو من الحرب وكل كيانها قائم على فكرة الحرب والتوسع فكيف يمكن قبولها بهذه السرعة في الأمم المتحدة واعتبارها دولة محبة للسلام.
إسرائيل كيان شيطاني؛ قام ونشأ بطريقة سفاحيّةاعتسافيه؛ ودأب على ارتكاب الجرائم بحق الجميع؛ فلم تسلم من جرائمه حتى الأمم المتحدة؛ ففي عام 1949 قامت عصابة الارغون الصهيونية التي يتزعمها مناحيم بيغن بالقيام بعمل إرهابي راح ضحيته الوسيط الدولي للأمم المتحدة في فلسطين المتحدّر من الاسرة المالكة في السويد؛ الكونت فولك برنادوت ومعه عدد من العاملين بأمرته لأنه تقدم باقتراحات منصفة تخص المسالة الفلسطينية اعتبرها الجانب الصهيوني محاولة متحيزة وغير حيادية من جانبه؛ ونرى اليوم كيف هدد مندوب الكيان الغاصب الامين العام للامم المتحدة انتونيو غوتيرش وهو على منصة الجمعية العامة أمام العالم قاطبة؛ وطالبه بالاستقالة الفورية بسبب تصريحه المنصف بحق المقاومة الفلسطينية؛ فهل رأى العالم صلفاً وغروراً كهذا.
وإسرائيل التي لا تقيم لمنظمة الأمم المتحدة وزناً؛ تتصرف بهذه الشاكلة بسبب الدعم اللامحدود الذي تتلقاه من الولايات الامريكية؛ فمن الناحية السياسية تركن الى أن الولايات المتحدة "دولة مقر الأمم المتحدة" ستجهض كل محاولة لإدانتها أو اتخاذ اجراء بحقها لقاء أي مساس بالسلم والامن الدوليين؛ لأن مثل هذا السلوك سيمر عبر مجلس الامن ليصوت على ما سيتم أتخاذه من إجراء؛ وبما للخمسة الكبار من أحقيَّة في تعطيل مشروع أي قرار بمجرد اعتراض أحدهم عليه؛ فلكي يسري مفعول أي قرار لا بد من موافقة هؤلاء الخمسة مجتمعين؛ وهذا ما لم يحصل في تاريخ الصراع مع إسرائيل ومنذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1946.
وقد تمثّل الدعم السياسي الأمريكي لإسرائيل؛ بنقل السفارة الامريكية مؤخراً الى القدس تأكيداً لقانون الاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة لإسرائيل الذي صدر في عهد كلنتون عام 1995 وبضغط من منظمة العلاقات اليهودية الامريكية (آيباك)؛ وظلت مسألة نقل السفارة مسألة مؤجلة تخضع لتقدير الرئيس الأمريكي، الى أن جاء المناضل لأجل إسرائيل حتى النخاع الرئيس ترامب الذي أوفى بوعدٍ كان قد قطعه لممثلي آيباك ابان حملته الانتخابية بتنفيذ النقل فوراً؛ وبالفعل وقّع على القرار وبوشر بنقلها في حفل شارك فيه حشد كبير من الإدارة الامريكية؛ وكانت تلك بمثابة شحنة تحفيز إضافية لهذا الكيان ليُمعن في مواصلة إجرامه ويتوسع ويتمدد ولا يقيم وزناً لأي قوة في الأرض؛ فيما العربُ صيبةٌ نيام؛ لا بل تهافتوا مهرولين للارتماء في احضان إسرائيل مُطبِّعين ومُطبِّلين ومُزمّرين.
والسؤال الذي يلوح في الاذهان؛ هل ثمة أمكانية لجر إسرائيل للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية وتقرير مسؤوليتها عن جرائمها البشعة بحق المدنيين في غزة؛ ومن قبلُ ذلك في عموم انحاء الاراضي المحتلة. سيما وانَّ ما ترتكبه إسرائيل يَصْدُقُ عليه وصف الجرائم الواردة في نص المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة؛ وهي موثَّقة بالصوت والصورة. وفي الاجابة على التساؤل السابق؛ وكمتخصص في الشأن القانوني الدولي؛ لا أرى ثقب أمل في جر إسرائيل لمساءلتها عن تلك الجرائم أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ وفقاً للمعطيات الحالية والممارسات الدولية السابقة والحالية؛ فالنظام الاساسي للمحكمة لا يسري إلا على الاطراف الموقعة والمصادِقة عليه؛ وأمريكا ومعها إسرائيل إنسحبتا من النظام الاساسي عام 2002 وبالتالي لا يملك المدعي للمحكمة أن يباشر التحقيق الا اذا طلب مجلس الأمن ذلك؛ وهذا يحتاج الى قرار يؤيده المجلس شريطة موافقة الخمسة الدائمين مجتمعين؛ فهل يُتوقع أن تصوت أمريكا التي هي ليست طرفاً في النظام الاساسي للمحكمة ضد ربيبتها إسرائيل؛ فلم يثبت في تاريخ الأمم المتحدة الممتد منذ عام 1946 الى يومنا هذا أن صوتت أمريكا ضد مصلحة إسرائيل ؛ فما لم تتغير المنظومة الدولية الحالية بدءاً بتعديل ميثاق الأمم المتحدة الذي جرى وضعه في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 عقب الحرب العالمية الثانية؛ وتحديداً في الجانب المتعلق بمجلس الأمن فيما يخص صلاحياته والعضوية والتمثيل؛ وآلية التصويت في اتخاذ القرارات؛ فالنظام العالمي الجديد الذي تشكل عقب بالحرب العالمية الثانية الدموية التي راح ضحيتها قرابة (70) مليون قتيل معظمهم من المدنيين؛ يعكس إرادة الحلفاء الذين انتصروا في هذه الحرب؛ فالأعضاء الدائمين في مجلس الأمن اليوم هم الحلفاء الذين انتصروا بالأمس؛ وبالتالي فإن تركيبة مجلس الامن غير عادلة وغير منصفة من الناحية الجغرافية والتعداد السكاني؛ فقارة آسيا هي الأكبر حجماً وتستحوذ على 30% من مساحة اليابسة وتشكل ما نسبته 60% من سكان العالم تحظى بمقعدين دائمين فقط في مجلس الامن؛ بينما أوروبا التي تعتبر أقل القارات حجماً والمرتبة الثالثة من حيث السكان تحتل مقدين دائمين؛ فيما حُرمت افريقيا من العضوية الدائمة في مجلس الأمن مع انها تشكل 20% من مساحة اليابسة و 14% من اجمالي عدد سكان العالم؛ إذاً فهو نظام لم يتأسس على عدالة واضحة منصفة؛ فكيف نرتجي منه أن يطبق العدالة والانصاف؛ ثم أنه وما لم تتغير آلية التصويت فيه بالنسبة للأعضاء الدائمين؛ فسيبقى الحال يسير من سيء الى أسوأ. ومع أن وظيفة مجلس الأمن الأولى والرئيسة هي حفظ السلم والأمن الدوليين في هذه المعمورة؛ فسيبقى تحقيق السلم والامن مطلباً تجتاحه المخاطر والتهديدات؛ وسيبقى المجلس بالتركيبة الحالية كياناً هشّاً يهدد السلم والأمن الدوليين؛ طالماً تستطيع دولة واحدة أن تنفرد بتعطيل قراراته إذا كانت لا تستجيب لمصالحها؛ والأجدر أن يصار الى تعديل ميثاق الأمم المتحدة الذي يعاني من تشوهات عبر مؤتمر دولي من خلال الجمعية العامة؛ لغرض زيادة عدد الدول الأعضاء الدائمين الى سبعة على الأقل؛ وأن تُتخذ القرارات ذات المساس بالسلم والامن الدوليين بالأغلبية المطلقة على أن تكون أربعة أصوات منها الأعضاء الدائمين؛ بهذه الوسيلة الصعبة المنال نستطيع ان نجر إسرائيل الى دوائر المساءلة في الأمم المتحدة؛ أما الوضع الحالي فلا يسعف مطلقاً بأية محاكمة لإسرائيل؛ ولو تتبعنا قرارات مجلس الامن المتعلقة ذات الصلة بالصراع مع إسرائيل منذ عام 1948 والى يومنا هذا ستجد أن كل مشروعات القرارات التي تُدين ممارسات إسرائيل تم تعطيلها بسبب الموقف الامريكي الداعم المضل لإسرائيل .
وحتى قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة؛ والتي هي في الاصل قضاء مكمّلٌ للقضاء الوطني؛ لو كان العالم جادَّاً في مساءلة إسرائيل عن جرائمها ومجازرها التاريخية التي أرتكبتها كمجزة دير ياسين وصبرا وشتيلا وقانا وغزة؛ لتشكّلت محاكم دولية مؤقتة؛ على غرار محكمتي طوكيو لعام 1945 ونورمبرغ عام 1946 التي شكّلها الحلفاء لمحاكمة مجرمي الحرب العالميتين؛ ومحكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة؛ ومحكمة مجرمي الحرب في رواندا؛ فمجلس الأمن توافق على تشكيل هذه المحاكم لمحاكمة مجري الحرب منعاً لأفلاتهم من العقاب تحقيقاً للعدالة؛ فلماذا لم يتوافق لإنصاف الفلسطينيين وتشكيل مثل هذه المحاكم لملاحقة الاسرائيليين؛ باختصار شديد؛ الولايات المتحدة هي العدو رقم لقضيتنا ولولا الدعم الأعمى الذي تتيحه لتل أبيب؛ لعادت فلسطين وتحررت شبراً شبراً على يد المقاومة الفلسطينية الباسلة.
ثم أن إسرائيل تضرب عرض الحائط؛ مدعومة بالموقف الامريكي؛ كل مجهود يتعقب جرائمها وانتهاكاتها المروّعة؛ فحين قرر مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها الاحتلال في عدوانه على غزة عامي 2008- 2009 م برئاسة القاضي الجنوب افريقي ريتشاد غولدستون؛ وكان التفويض الممنوح لهذه اللجنة؛ هو التحقيق في الانتهاكات الاسرائيلية في غزة وفي فلسطين فرفض غولدستن هذا التفويض؛ واحتج عليه وقال بان التفويض يجب أن يشمل التحقيق في انتهاكات الجانبين؛ وكان له ما أراد؛ فتم تغيير التفويض ليشمل التحقيق كلا الجانبين؛ ومن غير ولوج في التفاصيل؛ لم تتعاون اسرائيل مع اللجنة مطلقاً وقاطعتها منذ بداية تشكيلها؛ فيما تعاون معها الجانب الفلسطيني بشكل تام وعلى على وجه الخصوص حركة المقاومة الاسلامية حماس؛ واستكملت اللجنة تحقيقاتها التي ناهزت اكثر من 600 صفحة؛ وخلصت ان كلا الجانبين قد ارتكب جرائم ترقى الى جرائم الحرب وضد الانسانية وقد تم التصويت على هذا التقرير من قبل أعضاء مجلس حقوق الانسان البالغ عددهم 47 عضواً؛ وبواقع 25 صوتاً مؤيداً ومعارضة 6 اعضاء وامنتاع 11 عضواً؛ وتمت المصادقة عليه من قبل الجمعية العامة باغلبية 114 صوتاً؛ وبعد ذلك طالبت بعض الدول ومنها ليبيا لعقد جلسة طارئة لمجلس الامن لبحث تداعيات تقرير اللجنة فرُفض الطلب الليبي؛ وفي جلسة عادية لمجلس الأمن دعا فيها مندوبو الدول الغربية اسرائيل الى إجراء تحقيقات في هذه الانتهاكات التي وصفها التقرير؛ فيما وصف السفير الامريكي حماس بانها منظمة ارهابية؛ واعتبرت غابرييلا شاليف سفيرة اسرائيل في الامم المتحدة آنذاك التقرير بأنه مضيعة للوقت؛ وثبت انحياز رئيس اللجنة لصالح اسرائيل الذي قال في مقالة لاحقة بأن نتائج هذا التقرير لم تكن لتدين اسرائيل فيما يتعلق بتعمد قصف المدنيين في غزة؛ لو انها تعاونت مع اللجنة؛ وقد طالب كل من بنيامين نتنياهو وشيمون بيرس رئيس اسرائيل الامم المتحدة بالغاء التقرير وسحبه؛ فيما تمسك الجانب الفلسطيني بالتقرير؛ وهددت اسرائيل السلطة الوطنية الفلسطينية بسحب التقرير؛ وكان الكونجرس الامريكي قد رفض هذا التقرير كجزء من الدعم الامريكي التقليدي لاسرائيل؛ وبقي هذا التقرير حبراً على ورق.
وأخيراً؛ يثور تساؤل في سياق إمكانية المساءلة القضائية والجنائية لإسرائيل عبر وسيلة أخرى من خلال الاختصاص القضائي العالمي؛ الذي تأخذ به بعض الانظمة القانونية الجزائية لبعض الدول؛ كإستثناء على مبدا الصلاحية الاقليمية؛ حين يتعلق الأمر بجرائم تنطوي على درجة من الخطورة وتشكل انتهاكاً جسيماً فمن الممكن تحريك الدعوى الجنائية أمام محاكم تلك الدول التي تأخذ بهذا النظام بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة ومرتكبها وأيّاً كانت بالصفة الرسمية لمرتكب الجريمة؛ ولو كان رئيس دولة سواء كان فاعلاً أم شريكاً أم محرضاً أم متدخلاً؛ ومن أمثلة تلك الدول المانيا وهولندا وبلجيكا والسويد واسبانيا وبريطانيا؛ ويأتي إعمال هذا الاختصاص إستجابة الى عدد من الصكوك الدولية وفي مقدمتها اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتكول الاضافي لعام 1977التي تلزم الدول الاطراف بتعقُّب المشتبه فيهم بارتكاب جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة بغض النظر عن جنسياتهم ومكان ارتكابها وتقديمهم للمحاكمة؛ وقد طُبق الاختصاص القضائي العالمي لأول مرة عام 1998 عندما أعتقل الرئيس التشيلي السابق أوغستو بينوشيه في لندن بموجب مذكرة قضائية دولية صادرة من القضاء الاسباني واُفرج عنه ليوضع قيد الاقامة الجبرية؛ ونشبت حوله محاكمته معركة قانونية شرسة في مجلس اللوردات البريطاني بين اتجاهين احدها يدفع باتجاه تسليمه لأسبانيا وآخر يطلب اطلاق سراحه؛ وقد دعا كل من جورج بوش الابن وتاتشر رئيسة وزاء بريطانيا السابقة الى اطلاق سراحه وعودته الى وطنه؛ وقد ارسلت له تاتشر زجاجة من الوسكي كتبت على غلافها " سكوتش مؤسسة بريطانية لن تخذلك أبداً " ثم تم تسليمه للسلطات التشيلية وجرت محاكمته عن بعض التهم وتم الافراج عنه بسبب تردي وضعه الصحي وتم حفظ بقية الدعاوى بسبب وفاته عام 2006.
وهذه هي النافذة المؤملة الوحيدة في ظل المعطيات السابقة؛ التي يمكن ملاحقة إسرائيل ومساءلتها عن جرائمها من خلال الانظمة القضائية الجزائية في الدول التي تتبنى الاختصاص القضائي العالمي؛ إذا أن مثل هذه الدول قطعاً سيكون قضائها مستقلاً ومحايداً؛ ولن يخضع للمزاج والهوى السياسي؛ بل سيكون متوافقاً مع الرأي العام؛ الذي سيندفع في نهاية المطاف للتصدي والدفاع عن الحقوق والحريات؛ وسيقف في وجه أي طغيان سياسي يستهدف هذه الحقوق ويتغول عليها؛ فحين تتغلب الاعتبارات السياسية على المصالح القانونية الاجدر بالرعاية؛ تصبح الحقوق الانسانية في مهب الريح وهذا ما تشهده غزة.
* الدكتور موسى شاهر الرحامنة
باحث في القانون الدولي ومستشار قانوني