مهما تكن نهاية الحرب في غزة، فإن المقاومة ستخرج منتصرة، صحيح موازين القوى مختلّة تماما، غزة تواجه تحالفا دوليا غير مسبوق، الكيان المحتل فقد عقله بعد صدمة 7 أكتوبر، ويخوض حربا تتعلق بوجوده، صحيح، أيضا، لا يوجد أي ظهير للمقاومة، والغزيون في مواجهة حملة إبادة جماعية مفتوحة، أشبه ما تكون بالمحرقة النازية، لكن الصحيح، ايضا، هو أن الكيان المحتل في ورطة، يتصرف بمنطق الهزيمة، وإذا كان نجح بقتل الأبرياء، وتدمير العمارات والمشافي، والمساجد والكنائس، فإنه لن ينجح باغتيال روح المقاومة، ولا بتصفية القضية الفلسطينية.
هدف تل أبيب من الحرب هو اجتثاث المقاومة، وإعادة إنتاج غزة جديدة، بأقل عدد من سكانها، وتحت سيطرة الاحتلال وادارته، كل السناريوهات التي تطرح لما بعد الحرب تصب في اتجاه واحد، وهو إغراق المقاومة في البحر، وتهجير السكان إلى مصر، ، فهل هذا ممكن ؟ بتقديري هذا الانتصار لن يتحقق، ربما في أسوأ التصورات تتمكن تل أبيب من إلحاق أكبر ضرر وخسائر بالمقاومة، وربما تجتاح الأنفاق وتصل إلى القيادات وتغتال بعضها، لكن هذا الإنجاز ليس انتصارا، لأن إعادة الاعتبار لصورتها المزيفة أمام ذاتها، والآخرين، يحتاج إلى أبعد من ذلك.
قلت : أبعد من ذلك، أولا : لأن المعركة غير متكافئة، فهي بين دولة تعتبر نفسها الأقوى عسكريا في المنطقة والعالم، وبين فصائل لا تملك إلا اقل العدة والعتاد، ثانيا : لأن وراء تل ابيب دعم عسكري وسياسي دولي مفتوح، وحلفاء اعتبروا أن هذه الحرب حربهم، وبالتالي فإن معنى أن تنتصر، ينصرف إلى نتيجة واحدة، وهي إنهاء المقاومة، وإقامة إدارة بديلة لحماس في غزة، كمرحلة أولى لتصفية القضية الفلسطينية لاحقا، دون ذلك، فإن أي تعادل وفق معادلة (لا غالب ولا مغلوب)، أو هدنة، أو صفقة لوقف الحرب، وتبادل الأسرى، يعني أمرا واحدا، وهو هزيمتها، وانتصار المقاومة.
إذا دققنا في المشهد، نجد أن أداء المقاومة، حتى الآن، أفضل مما كنا نتوقع، نجد، ثانيا، أن أهل غزة، كحاضنة للمقاومة، مازالوا صامدين وموحدين، نجد، ثالثا، أن الرواية الفلسطينية وجدت لها صدى لدى الرأي العام الدولي، وأدت إلى إزاحة الصورة التي روجها المحتل، وانعكس ذلك، بالتالي، على مواقف الدول والشعوب في العالم (القرار الذي تبنته الأردن بالجمعية العامة للأمم المتحدة يؤكد ذلك)، نجد، رابعا، أن القوة الهائلة التي استخدمتها قوات الاحتلال، على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، لم تُحدث أي فرق جوهري لحسم الحرب، ما يستدعي استمرارها لمدة طويلة، أو تحولها إلى حرب إقليمية، وهذا يصب في خانة خروج تل أبيب بدون انتصار، إن لم تكن هزيمة.
حين ندقق اكثر، نجد أن هذه الحرب التي يقوم بها الاحتلال، ويعتبرها حرب استقلال ثانية، ليست الأولى التي يخوضها ضد المقاومة، سواء في غزة، أو في فلسطين، أو لبنان، النتيجة كانت دائما واحدة، ومازالت شاهدة، وهي «الفشل « بتحقيق الأهداف التي كانت تعلنها، أقصد تدمير المقاومة وسحقها، أو حتى تدمير بنيتها التحتية، ما حدث في كل هذه التجارب، كان العكس تماما، وهذا بتقديري سوف يتكرر في هذه الحرب، حتى وإن كانت تُصنف بأنها غير مسبوقة.
أعرف أن لدى آخرين جردة من الأسباب التي تدفع باتجاه عكس ما ذكرته، وأنا أُقدرها وأفهمها، أعرف، ثانيا، أن المزاج الشعبي العام لا يحتمل أي كلام عن إمكانية هزيمة المقاومة، وأن نشوة الانتصار ما تزال تحكم ردود أفعالنا في الشارع، أعرف، ثالثا، أن معظم الخبراء العسكريين لا يضعون أكثر من نسبة 10% لسيناريو انتصار المقاومة، أعرف، رابعا، أن رأس المقاومة أصبح مطلوبا لأطراف عديدة، وان انتصارها خبر مزعج جدا لهم، لكن مع ذلك كله، لدي أن قناعة أن هذه الحرب سترسخ صدمة 7 أكتوبر، وستشكل تحولا كبيرا في الإقليم، وربما العالم، وستُتوج بإيجاد مخرج لإسرائيل، ضمن حدود ( نصف انتصار)، وليس مخرجا لنتنياهو، وهذا يعني انتصار المقاومة، واعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام، بموازين جديدة، مختلفة تماما عن الموازين التي حكمتها 75 عاما.
الدستور