تسأل المذيعة: لماذا لم يتم حتى الآن إعلان غزة منطقة منكوبة؟ ابتسمت، وتفكرت في دلالات المصطلحات واختلافاتها في أذهان البشر، الغالبية العظمى من أهل الأرض يعرفون النكبة من خلال زلزال، أو إعصار طارئ، أو فيضان جارف، أو أي كارثة إنسانية عارضة تقع في شمال الأرض، أو شرق آسيا، أو جنوب شرق آسيا، وفي الولايات المتحدة، أو إفريقيا السوداء، أو الصين، أو اليابان، أو في أي مكان، تعلن منطقة ما أو مدينة "منكوبة".
وأما في فلسطين فيختلف المفهوم ويختلف الحال، النكبة لازمة للحياة، يولد الفلسطيني منكوباً، يولد من رحم منكوب، لأم منكوبة، ويعيش منكوباً ابن منكوب، وحفيد منكوب، وجار منكوب، وخال ابنة منكوبة، أو يخرج من رحم أم شهيدة، لأب شهيد، تقصفه الطائرات، فيدفن على يد شهيد، بجوار أخت شهيدة، وهو من أدخل مفردة النكبة إلى الموسوعة البريطانية، النكبة فلسطينية الجذر؛ مصطلح فلسطيني بامتياز، موسوعة مأساة تراجيدية طويلة، بدأت عام 1948 يوم تم تهجير 750 ألف فلسطينياً عن أرضه في عكا، ويافا، وحيفا، واللد، وصفد، والرملة، والناصرة، ومئات البلدات الممتدة في النصف الشمالي من فلسطين التاريخية، وأعقب ذلك هدم أكثر من 500 قرية. النكبة بدأت عندما عمل المحتل على محو الجغرافيا الفلسطينية، وتدمير الهوية، وطمس معالم عربية أصيلة، واستبدالها بمشهد عبري أوروبي. النكبة بدأت بعمليات ممنهجة لتطهير عرقي، رحلة عذاب طويلة بدأت يوم الخامس عشر من أيار عام 1948.
النكبة رحلة تجريد وتشريد للفلسطينيين، وكان لغزة نصيباً في استقبال النازحين من أبناء جلدتهم، والمشردين من بيوتهم، ما جعل عدداً كبيراً من الفلسطينيين عديمي الجنسية، يحملون وثائق لبنانية، أو مصرية، أو يحملون جنسية محتل أرضهم، النكبة لازمة لحياة الفلسطيني ومماته، حولت أهل فلسطين إلى أمة لاجئين، مغتربين، مشتتين، مهجرين، غير مندمجين، وهؤلاء الذين يعيشون في غزة في معظمهم، هم أبناء بيت جبريل، والمسمية، والولجة، والمالحة، ولفتا، وعسلين، وإجزم، والدامون، وصرفند، والدوايمة، والقبيبة، وأم الشقف، وبرير، وبربرة، وغيرها مئات.
حرب غزة اليوم ليست أول حروبها، وليست آخرها، واجهت الصليبيين عام 1244. النكبة جرح غائر، جذورها عميقة، تداعياتها متلاحقة، واللاجئ الغزي اليوم، حفيد لاجئ، وابن لاجئ منكوب، النكبة عنوان الفلسطيني، مستمرة متصاعدة، لا وطن له على أرض وطنه، ولا موطئ قدم آمن في أرضه، لا مدخل ولا مخرج، سور بيته واطئ، أسماء مدنه تغيرت، أسرَلَتها إسرائيل، وهوّدت كل ما فيها.
كيف نعلن غزة منطقة منكوبة، وملعبها مدفنها، كيف نعلنها منكوبة وكأنها كانت تعيش في رفاه، كأنها "كارلو فيفاري" قبل السابع من أكتوبر، غزة مقبرة مفتوحة، سجن كبير، مدينة مسيجة بالأشواك، محاصرة بالأسلاك، ومخنوقة منذ سنين، غزة الأكثر كثافة في سكانها بين مدن الأرض، مطوقة بالكراهية، محوطة بالعنصرية، والأحقاد والأصفاد، غزة أم النكبات، ملجأ المنكوبين، واللاجئين الذين هربوا من الموت عام 1948 على يد العصابات الصهيونية، ليلاحقهم الاحتلال إلى غزة، ويقتلهم بعد 75 عاماً، يقتلهم، أو يقتل أبناءهم، أو أحفادهم، أو حلمهم، أو طفلهم الذي يبلغ من العمر يوماً واحداً، غزة التي يفقد أولادها الحق في تعليم جيد، وفي علاج جيد، وفي مسكن جيد، وفي مأكل جيد، وفي مأمن من قذائف المحتل الحارقة، يعيشون في مخيمات لجوء بائسة. هل كانوا على قيد الحياة، هل ماتوا، هل نعلن غزة منطقة منكوبة، أم نقرأ الفاتحة على روح أمة هانت واستهانت، ضاعت، وأضاعت، ولكن ليس؛ دعونا نعلن غزة منطقة منكوبة؛ ما الذي سيتغير يا ترى في حياة أهل غزة !