قانون المواريث للأردنيين المسيحيين .. أين وصل ولماذا يتعثر؟
الفرد عصفور
28-10-2023 01:47 PM
في المجتمعات الحديثة يعد الميراث من الأحكام الاجتماعية وليس من الشعائر التعبدية ولا من صلب العقيدة أو الشريعة فيكون بذلك مجالا يمكن الاختلاف فيه والاحتكام إلى تغييره وتعديله لمصلحة الناس. ولأنه مسألة اجتماعية يجب ابقاؤها في إطار قيم الحياة المجتمعية وبهذا يصبح العدل والمساواة في الإرث من جوهر التجديد.
في الدولة المدنية التي نسعى إليها في الأردن كما تحدث عنها الملك عبدالله الثاني في ورقته النقاشية السادسة عام 2016 نحتكم إلى الدستور والقوانين.. دولة ترتكز على السلام والتسامح والعيش المشترك وتمتاز باحترامها وضمانها للتعددية واحترام الرأي الآخر، وهي دولة تحافظ وتحمي أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية، وهي دولة تحمي الحقوق وتضمن الحريات حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات.. تكفل الحرية الدينية لمواطنيها وتكرس التسامح وخطاب المحبة واحترام الآخر وتحفظ حقوق المرأة كما تحفظ حقوق الأقليات.
انطلاقا من هذه المبادئ سعت نخبة من أبناء المجتمع المسيحي في الأردن لتعديل ميزان المواريث بما يضمن حقوق البنات بالدرجة الأولى ووضع تشريع يساوي في الإرث بينهن وبين الذكور. وقد جاء التعديل الدستوري لعام 2011 ليضمن جعل مسألة الإرث في إطار الأحوال الشخصية للمسيحيين إذ أن ذلك التعديل يحيل كل قضايا النزاعات الاسرية والشخصية لغير المسلمين إلى الشريعة المسيحية المتضمنة في قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين.
كان واضحا على الدوام أن الدولة الأردنية ليس لديها أي موانع شرعية أو قانونية لقانون ميراث خاص بالمسيحيين يساوي بين الذكور والاناث في الميراث. ومن هنا جاء التعديل الدستوري في المادة 109 الفقرة 2 من الدستور والمنشور في الجريدة الرسمية في1/10/2011 ينص على ما يلي: تطبق مجالس الطوائف الدينية الأصول والأحكام المتعلقة بمسائل الاحوال الشخصية التي لا تعتبر من الأحوال الشخصية للمسلمين الداخلة في اختصاص المحاكم الشرعية على أن تنظم تشريعات هذه المجالس شروط تعيين قضاتها وأصول المحاكمات أمامها.
عملت اللجنة التي شكلها مجلس الكنائس على إعداد مسودة مشروع قانون جديد وفق مبادئ واسس الدستور الأردني والمبادئ المستقاة من الكتاب المقدس. وقد كانت هذه خطوة إيجابية تماما. وفي شهر أيار الماضي وافق رؤساء مجلس الكنائس في الأردن على مسودة مشروع القانون الخاص بالوصايا والمواريث للأردنيين المسيحيين الذي يجيز الوصية للوارث ويساوي بين الذكور والاناث في الحصص.
أين وصل المشروع الآن؟
سالت المحامي الأستاذ نزار ديات عضو اللجنة الخاصة التي وضعت مسودة القانون حول المرحلة التي وصل إليها فقال: "إن التفاصيل الآن ليست بصورة عرضها على مجلس الوزراء لكن القانون في الجزء المتعلق منه بالمواريث سيتم تعديله من خلال المجمع المقدس على قانون العائلة البيزنطي مع تعديل على تسميته". وأضاف الأستاذ ديات أنه سيتم بعد ذلك إجراء تعديل على قانون "مجالس الطوائف المسيحية" الأردني "لكي يشتمل على مادة تحيل تطبيق المواريث على القانون الجديد".
من المعروف أن المسيحية ليست شريعة أرضية وليس فيها نصوص تشريعية وقوانين مادية لكنها تضع قوانينها من خلال المبادئ الروحية. وبالنسبة للميراث فالمبدأ الأول هو أن تقسيمه بين الورثة يجب أن يخضع للعدل والمساواة ويقسم انطلاقا من الآية الانجيلية "ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في المسيح" (كورنثوس 1/11:11) أما المبدأ الثاني في تقسيم الميراث فيعتمد على الحاجة أي أن يقسم الميراث بحسب حاجة الوارثين وهذه تكون بالتراضي بين الأخوة. بحسب هذين المبدأين يتم تحقيق هدفين هما المساواة والعدل.
وعند استكمال كتابته وإقراره من المهم جدا أن ينص قانون المواريث المسيحي المتوقع على حصر التوريث في ذرية المتوفي في حال وجودها بغض النظر إن كانت هذه الذرية ذكورا أو اناثا. وسينص القانون على أن الانثى تحجب الإرث عن الاعمام واولاد العم في حالة لم يكن لها أخوة ذكور. فالمشكلة الأكبر التي ظلت تواجه العائلات المسيحية في الأردن هي حرمان ذرية المتوفي إذا كانت من غير الذكور من أي إرث. أي أن يغتصب الأعمام على سبيل المثال ميراث الأخ وحرمان بناته من هذا الميراث وهذه في الواقع جريمة عادة ما تمر بصمت كنسي ومجتمعي.
وبينما ينتظر الأردنيون المسيحيون إقرار القانون وانفاذه لا يزال كثيرون يجادلون بأن هذا القانون سيخلق فتنة التفريق بين المواطنين لكن هذه الخشية لا مبرر لها ولا تصمد أمام الواقع فكل البنود الأخرى في قانون الأحوال الشخصية للمسيحية تختلف عن تلك التي تخص غيرهم ولم يصل الأمر إلى حد الفتنة. وعلى الدوام كان يوجد في المجتمع فئات تحارب المرأة وترفض أن تراها مساوية للرجل تحركها دوافع عشائرية وانانية وتطرف ذكوري لم يعد مبررا في هذا العصر. والرافضون للمساواة في الإرث لهم دوافع غير سليمة وهم نوعان إما طامع وإما غير قادر على التفكير خارج الإطار التقليدي. الرافضون لا يزالون يتعاملون مع الميراث من منظور عشائري ضيق.
العقبة الآن أمام القانون تكمن في مجلس النواب إذ لا يزال يوجد نواب يعارضون القانون لأسباب مختلفة وذرائع لا تصمد أمام الحقائق والوقائع لأنها مجرد ذرائع ضعيفة منطلقها سياسي ضيق ومصالح اجتماعية أضيق. وسيقول المعارضون أن تخصيص نظام مواريث مختلف للأردنيين المسيحيين سيخلق تفريقا دستوريا بين المواطنين لكنه في الواقع ليس كذلك. لأنه انطلاقا من مفهوم الدولة المدنية الذي تسعى إليه الدولة فإن القانون المرتقب يشكل احتراما لمكون أصيل من مكونات الشعب الأردني له خصوصية. كما أن القانون مطلب مهم وضرورة اجتماعية للتحديث.
هل سيؤدي إقرار قانون المواريث للأردنيين المسيحيين إلى فتح الباب أمام جدل يتعلق بمطالب لتعديل نظام المواريث لغيرهم؟ ليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك. فنظام المواريث في الإسلام جزء لا يتجزأ من الشريعة وأي تعديل فيه سيكون مخالفا للشريعة ولإجماع العلماء على مر العصور لأن الميراث في الإسلام يوزع وفق آيات قطعية الدلالة والثبوت وهي من المعلوم من الدين بالضرورة ولا يمكن التلاعب بها أو تغييرها وفقا للقاعدة الشرعية أن لا اجتهاد في مورد النص. وهذا أمر يجب أن لا يكون له أي تأثير على ما يخص قانون الأحوال الشخصية والمواريث لغيرهم.
لو نظرنا إلى البلاد العربية ومواقفها من الميراث نجد أن بعض تلك الدول تتحرك باتجاه تعديل نظام المواريث بما يحقق المساواة بين الاناث والذكور. في المغرب الأمر لا يزال في طور النقاش بعد أن لم يعد الأمر من التابوهات والمحرمات في العالم العربي. أما في تونس فقد صدر في العام 2018 قانون للمساواة في الإرث بين الذكور والاناث وبذلك أصبحت تونس الدولة العربية الأولى التي تحقق هذه المساواة.
في مصر تنص المادة الثالثة من الدستور المصري على ما يلي: "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية". وبناء على هذا النص الدستوري يوجد في مصر ما يسمى لائحة الاقباط الصادرة عام 1938 وفي موادها من 231 إلى 251 تفصيل عن قواعد وكيفية توزيع الارث للذرية الوارثة من زوج أو زوجة أو أبناء أو بنات. وقد استخدمت محامية مصرية قبطية من الصعيد هذه النصوص الدستورية في مرافعتها في القضية التي رفعتها على اخوتها الذين حاولوا بحسب اعراف الصعيد اغتصاب ميراثها وتمكنت من استصدار قرار من محكمة استئناف القاهرة / شؤون الأسرة بتأييد حكم قضائي أقر تطبيق الشريعة المسيحية في المنازعات المتعلقة بتوزيع الميراث بين المصريين من غير المسلمين. وهذه الحادثة وأخرى مماثلة ستشكلان سابقتين يستند اليهما القضاء المصري لإثبات حقوق الوارثات من البنات بغض النظر عما إذا كان لهن إخوان من الذكور أم لا.
معركة تحقيق المساواة في الإرث بين الذكور والاناث قد تأخذ وقتا وقد تواجه الكثير من الاعتراضات التي تعيق إصدار القانون وإنفاذه. والمعارضون للقانون يشكلون عامل ضغط على الدولة وبخاصة إذا ما استغلوا مسائل وهمية واقحموا الشريعة الإسلامية في مجادلة مؤيدي القانون بهدف إسقاطه في مجلس النواب.
في مثل هذه الحالة سيكون على مؤيدي القانون تطبيقه على انفسهم باختيارهم ولكن بشكل ملزم لهم بغض النظر عن أي مواقف أخرى ويمكن أن يتم ذلك من خلال وثيقة مجتمعية تشتمل على خلاصة القانون لتطبيقها. وقد سبق أن كان لاتفاق المجتمع قوة القانون مثلما حدث في مسألة توحيد الأعياد في الأردن عام 1973 عندما اتفق المجتمع واقر توحيد الأعياد والتزم به برغم معارضة بعض الجهات.