خرجت الحرب الإسرائيلية على غزة عن كل قانون إنساني وتشريع سماوي وحتى عن طلب للثأر، حيث القتل الممنهج للفلسطينيين واستهداف كل منحى من مناحي الحياة، واستباحة الأرض بشكل ربما لم يشهده تاريخ الحروب، في ظل صمت دولي كبير، ودعم واضح لإسرائيل بحجة الدفاع عن نفسها، وقد أعطي الجيش الإسرائيلي تفويضا مفتوحا في هجومه على غزة، الأمر الذي جعل من المواقف الدولية إزاء هذا غير مفهومة ومشوشة إلى حد كبير، خصوصا في الأيام الأولى للأزمة، ولكن بعد أن بردت العقول وبدأت الصورة بالوضوح وبعد أن تلقت إسرائيل دعما كبيرا، أصبحت الآن تواجه انتقادات كبيرة من دول غربية بعدد لا بأس به نتيجة ضغوطات الرأي العام في هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، بعد أن تكشف للعالم بشاعة وقسوة الهجوم على غزة بحجة الدفاع عن النفس .
في التحليل أن الجبهة الدبلوماسية على مستوى العالم بالنسبة لإسرائيل لا تقل خطورة وأهمية عن الجبهة العسكرية، حيث فعلت كل أذرعتها الدبلوماسية والإعلامية لإخفاء الوجه الحقيقي لعدوانها على الفلسطينيين في غزة، حيث حققت في بداية المعركة انتصارا كبيرا على هذه الجبهة، ولكن مع مرور الأيام، وقسوة الحرب على غزة، بدأت جبهتها هذه بالتراجع ولو ببطء، وبدأت كثير من رواياتها تتكشف أمام العالم بدليل أن الضغط زاد عليها بشكل ملحوظ خاصة تجاه المساعدات الإنسانية التي بات كل العالم تقريبا يطالب بإدخالها إلى غزة بعد أن كان الموضوع في البداية وبالنسبة لمعظم العالم مرفوض بحجة أن المساعدات من الممكن أن تكون مفيدة لحماس، ولكن مع مرور أيام المعركة تغيرت هذه الصورة بشكل متوازٍ مع ظهور مواقف معتدلة للكثيرين في العالم وبدأ هؤلاء يرفعون بمطالبتهم إلى حد محاسبة إسرائيل على مجازرها في حربها على غزة، وكشفت الحرب منذ اليوم الأول من بدايتها ضعف الجبهة الإسرائيلية الداخلية على المستوى السياسي وعلى مستوى الشارع، فهجوم حماس من خلال أخطر نقطة تعتبرها إسرائيل مهمة لأمنها، أشارت بقوة إلى أن الخلافات السياسية التي سبقت المعركة كانت سببا من أسباب ترهل كبير وهبوط في المعنويات لدى الجيش الإسرائيلي، وقد شعرت القيادة السياسية في إسرائيل أن جيشها تعرض إلى إذلال وهزيمة أول مرة في تاريخ وجودها ، وهذا ما يفسر شراسة الهجوم على غزة.
على الجانب الفلسطيني فإن المقاومة الفلسطينية ربما تفاجأت بحجم النصر الذي حققته، وربما لم تكن تعلم الحد الذي وصل إليه الترهل في الجانب الإسرائيلي في الاستعداد والتأهب، وربما أركن الإسرائيليون إلى أن المقاومة رضيت بالأمر الواقع وكان هذا الاعتقاد سبب من أسباب الترهل الكبير الذي ظهر اثناء عملية حماس..
الأمر الذي ربما كما يقول المحللون أن حماس لم تضع بحساباتها أثناء التخطيط للعملية الحجم المتوقع لردة الفعل الإسرائيلي وحلفائها بالعالم خصوصا الولايات المتحدة على العملية التي أشعرت الدول الغربية أن إسرائيل باتت مهددة بخطر وجودي، فكان بالنسبة لهؤلاء وجوب التحرك نحو الدفاع عنها بل الدفاع عن وجودها.
على الجانب الإيراني، فإن كل المؤشرات السياسية والعسكرية والعملياتية وآراء السياسيين والعسكريين تؤكد حتى هذه اللحظة أن إيران لن تدخل الحرب بشكل مباشر، وأنها ستكتفي بمشاغلة إسرائيل بواسطة أذرعها في المنطقة، فما يجري على جبهة حزب الله من قواعد الإشتباك التي تم التوافق عليها بشكل واضح لأن إيران كدولة ونظام لا يمكن أن تضحي بنفسها وهي ترى أن آلة الحرب الأمريكية وغيرها من الدول الغربية تتجمع في المنطقة، وإذا قدر لإسرائيل الإنتصار على المقاومة في غزة، فإنه من المرجح أن يتوسع المشروع الإسرائيلي المدعوم غربيا ويستدير إلى إيران وأذرعها في المنطقة حتى تتخلص حسب تفكيرها من هذا الصداع المزمن، لذلك فإن إيران لن تتورط في حرب ترى نتيجتها واضحة، كما أن حزب الله اليوم عليه عبء كبير وهو عدم إعطاء الفرصة لإسرائيل بضرب لبنان، حيث سيتحمل الحزب مسؤولية توريط البلاد في الحرب وهو يصارع خصوم أشداء سياسيين على الساحة اللبنانية، كما أنه أصبح في لبنان هو الدولة الحقيقية التي تتحكم بكل شيء، فلن يغامر بكل هذا .
على الجانب الروسي، لا أحد يتوقع من روسيا أكثر مما قدمته من إطلاق التصريحات المنددة بالعدوان على غزة وبالطبع يجب ألا تلام موسكو بأي شكل خصوصا أنها مشغولة في حربها ضد أوكرانيا وعين الغرب عليها، كذلك الصين التي تتحدث كما تتحدث روسيا.
على الجانب العربي، فإن إجماعا عربيا برز بعد 7 أكتوبر على ضرورة إنهاء مأساة الشعب الفلسطيني والرفض بقوة إعادة فكرة التهجير كما حدث في السابق، وأن ما يجري في غزة جريمة حرب، وأنه من الضروري أن يتم إيقاف النار فورا حماية للمدنيين، وقد تصدر الأردن العمل الدبلوماسي بكل جدارة وقاد العرب في المؤسسات الدولية في رفضهم لكل ما يجري للشعب الفلسطيني سواء في غزة أو الضفة وهذا الجهد الدبلوماسي الكبير يستند إلى مواقف الملك عبد الله الثاني الصلبة والواضحة..
الحديث عن مصير غزة بعد الحرب يدور حول سيناريوهات عديدة منها إعادة السلطة الفلسطينية إليها، وهذا كما يقول المراقبون سيكون صعبا جدا ومرفوضا من المواطنين في غزة، وسيتعبرون عودتها جزءا من برنامج ضرب المقاومة وأن عودتها يعني احتلالها من جديد بشكل غير مباشر كما حدث في الضفة الغربية، كما أن سيناريو آخر يتحدث عن حكومة تحت إشراف دولي، وكثير من هذه السيناريوهات التي كلها تستبعد احتلال إسرائيل لغزة والبقاء فيها كقوة احتلال، لأن إسرائيل لا تريد توريط نفسها بغزة من جديد، ولأن قياداتها تعلم أنها لو قضت على المقاومة كمؤسسة لن تستطيع القضاء عليها كفكرة، وأن المقاومة ستكون أشد ضراوة من السابق لأنها ستكون عبارة عن خلايا منفردة على غرار ما يحدث في الضفة الغربية ، وأن غزة ستتحول بالنسبة لإسرائيل حفرة نار لا يمكنها الخروج منها، لذلك يطلب الأمريكيون من القيادة الإسرائيلية باستمرار عدم التفكير مطلقا باحتلال غزة، كما أنهم يتهمونهم بعدم امتلاكهم لأي خطة لواقع غزة لما بعد الحرب، إذا تمكنت إسرائيل من تحقيق هدفها في القضاء على المقاومة ، ويبتعد الأمريكيون أكثر من ذلك عندما يتهمون إسرائيل أنه ليس لديها حتى خطة واضحة للإجتياح البري، وهذا الأمر بالذات أحد الأسباب التي تؤخر الضوء الأخضر الأمريكي للاجتياح البري.
وتقول بعض الآراء الاستخباراتية أن إسرائيل لا تملك من المعلومات عن واقع دفاعات المقاومة في غزة وما تعلمه لا يشكل إلا بنسبة لا تتجاوز العشرة بالمئة بالتوازي مع هبوط معنويات قيادات وأفراد الجيش الإسرائيلي الموجود على تخوم غزة ورعبهم من فكرة الاجتياح البري وإن بدأت إراهصاتها فعليا على الأرض منذ يومين..
من جهة أخرى أظهرت حرب غزة هشاشة المؤسسات الأممية وأنها واقعة تحت سيطرة دول بعينها، وأنها لا تستطيع أن تعمل بحريتها كممثلة لكل الأمم والشعوب بعدالة وأن سياسات الدول الكبرى فيها هي التي تفرض عليها قراراتها، وما حصل في مجلس الأمن قبل أيام بخصوص الحرب على غزة يؤكد هذا الرأي.
لقد أظهرت الحرب على غزة ضعف العرب وغيابهم الكامل إعلاميا على مستوى العالم، وعدم قدرتهم على التأثير في الرأي العام العالمي سواء الشعبي أو على المستوى الرسمي، وهذا عائد إلى عدم امتلاكهم أي منبر إعلامي في الغرب يشرح وجهة النظر العربية وعدالة قضية فلسطين، الأمر الذي مكن إسرائيل من احتلال الساحة بشكل كامل وعلى هذا المستوى من السيطرة، لذلك أصبح من الضروري أن يكون هناك تواجدا عربيا وإسلاميا على مستوى الدول في مجال الإعلام ،ولم يقف الأمر عند وسائل الإعلام التقليدية بل تعداه إلى جبهة وسائل التواصل الإجتماعي الذي تسيطر عليه إسرائيل كذلك.
انتبه الإسرائيليون منذ بداية المعركة على أهمية الإعلام كسلاح مهم في المعركة فسخروا إمكانيات ضخمة ليكونوا أصحاب القرار في توجهاته التي تخدم مصلحتهم .
الحرب على غزة مفتوحة على كل الإحتمالات والنتائج ولن تكون المنطقة كما كانت قبل ٧ أكتوبر مهما كانت نتيجتها..
تبقى الحقيقة راسخة أن كل أزمات المنطقة نتيجة للإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ولن تهدأ المنطقة مادام هذا الإحتلال قائما..