أكتب أحياناً في هذه الأيام لنفسي لا للآخرين، ليس من أجل البوح، ولكن من أجل أن أتأكد أن قلبي لم يتعفن، وأن عيني ما زالت بصيرة، وإن كانت يدي كأيادي الكثيرين غيري؛ قصيرة، لا حول لها ولا قوة أمام كارثة لم تصب أهل غزة إلا في أرواحهم وممتلكاتهم، لكنها أظهرت حجم الموت في الضمير الدولي الإنساني، وأن عبارة الدم البارد، يجب إطلاقها على بيض غربيين طالما ادعوا وتشدقوا بعبارات رنانة لم تعد تطرب، لا تلامس الوجدان، ولا يثق بها السامع، أسطوانة مشروخة لعالم قرر وحده من جانب واحد أنه "الحر"، وراعي حقوق الإنسان، والديمقراطية، والعدالة، والقانون الدولي، وهو كاذب أشِر.
أكتب أحياناً لأعرف أنني ما زلت حياً، فما أراه من حولي موت أحياء، وموت ضمائر، وموت أخلاق، وموت إحساس بالإنسانية في غياب عدالة ورحمة وإنصاف. أكتب بعد فقدان الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح زوجته آمنة "أم حمزة"، وابنه محمود، وابنته شام في قصف استهدف "المنطقة الآمنة" التي أعلنت عنها إسرائيل، ونجت خلود إثر وصولها جريحة إلى مستشفى شهداء الأقصى، فيما والدها يغطي قصفاً يطال حي اليرموك في وسط غزة، ويقف وائل الدحدوح باكياً، وسرعان ما يكفكف دموعه، ويسأل القاتل من جيش إسرائيل "الخلوق": هل تنتقمون منا في أولادنا؟
أكتب وقلبي يكاد أن يتوقف، وأنا أتخيل الظلام حين يحل على أهل غزة، وحين يخيم الليل على لحوم بشرية تحت الأنقاض، يعلم الله وحده إذا كانت حية أو ميتة أو مقطعة إلى إشلاء، لكن عمليات الإنقاذ في مدينة كغزة، تتوقف في الليل، وهم لا يملكون من المعدات إلا القليل، وفي الغالب فإنهم ينتشلون أهاليهم من تحت الأنقاض بأيديهم، ويرفعون كتل الإسمنت عن أجساد أهل مدينتهم بأيديهم.
فشل "العالم الحر" في إقناع البشرية في "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وفشلت إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأرقام الضحايا التي تجاوزت سبعة آلاف على الأقل في اسبوعين، نصفهم من الأطفال، تقول بالفم الملآن، أن إسرائيل ارتكبت وهي تحمل تلك اليافطة الخضراء التي منحها إياها غرب أعمى، مجازر ضد الإنسانية، وأن ما حدث يوم السابع من أكتوبر ليس "هلوكوستاً" جديداً، وأن "الهلوكوست" الحقيقي هو ما يحدث اليوم في غزة؛ إبادة جماعية، لا عقاباً جماعياً. اغتيال جماعي، نعم، قتل جماعي، تهجير جماعي، تجويع جماعي، تدمير كلي، والآلة العسكرية الإسرائيلية لا تتوقف لا في الليل ولا في النهار، ولا يبدو أنها ستوقف، كيف تتوقف وقد حصلت على أكبر ضوء أخضر "للدفاع عن النفس" في تاريخها، ولا يعني الدفاع عن النفس سوى القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين وسط صمت دولي رهيب مخجل، وتصريحات ركيكة كاذبة حول حرص الغرب على حياة المدنيين الفلسطينيين، وإيصال المساعدات لهم، والسعي لإقامة دولة فلسطينية، وكل هذه التصريحات كذب في كذب.
أكتب والله حتى لا ينفجر قلبي من شدة القهر والغضب، لست حزيناً على الشهداء، فهم نجوم السماء، ودرة أهل الجنة، ولست حزيناً على الأرض، فالأرض لن ترحل، ويعاد البناء مرة وعشرة، ولست حزيناً إلا على موت الضمير، فقدان الإحساس بمعاناة الآخر إذا كان الآخر فلسطينياً، أحزن على تلك القلوب الميتة التي لا تعرف الإنصاف، وأحزن على كل من دعم إسرائيل بالسلاح، ومدها بالذخائر، وشد على يديها، ومنحها الضوء الأخضر "للدفاع عن نفسها"، فقتلت الآلاف، نصفهم نساء وأطفال، وجرحت عشرات الآلاف، وهجرت نحو مليون و200 ألف من الشمال إلى "جنوب آمن"، تقصفه الطائرات صباح مساء.
ما زالت إسرائيل تستجدي المجتمع الدولي وتستدر عطفه على ضحاياها يوم السابع من أكتوبر، ويعرض مندوبها في الأمم المتحدة صور ضحايا، وكأن السبعة آلاف الذين سقطوا في غزة، ليس لهم صوراً، وكأن الفلسطيني لا يمتلك صوراً لأشلاء أطفاله، وكأن يوم السابع من أكتوبر بداية الصراع، لا نتيجة لظلم وقهر وتهجير وقتل بدأ عام ١٩٤٨، وسجن أهل غزة ١٦ عاماً؛ أكبر سجن مفتوح في العصر الحديث.
ستهزم إسرائيل بفرط استخدامها للقوة، وبفائض غرورها، وحجم جرائمها، واستمرار تعنتها، وتحت كاهل أحقادها، وإنكارها لحقوق الفلسطيني، وستظل غزة وصمة عار في جبين الإنسانية، وسيسجل التاريخ لوائح العار،.تلك هي غزة، ألف أهلها الاستشهاد، وإن سألوك عن غزة، قل لهم: بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد.