لسنا بخير، ولن نكون أبداً!
د. موسى برهومة
27-10-2023 02:20 PM
ستنتهي الحرب على غزة. وسيتوقّف هدير المدافع. ستتوقّف صرخات الضحايا تحت الأنقاض. سيتم ذلك الآن، أو بعد أن تُسوّى غزة بالأرض، كما يهدّد قادة التوحّش والهمجيّة في تل أبيب.
سيرتطم وعي العالم، في اليوم التالي لتوقّف الحرب، ببشاعات لا حدّ لها، بحيث يصعب ردم حُفرها التي ستنسحب على مساحات زمنيّة في الذاكرة المستقبليّة لأجيال عديدة.
حدثت قبل هذه الحرب حروب ووقعت مجازر وأبيدت شعوب ومدن، كما أفاد ناجون لهم حظ وافر من الخيال والألم. لكنّ الحرب الآن في زمن الفضاءات المفتوحة مختلفة. نحن نرى الموت على الهواء، ونكاد نشمّ، (إن لم نكن فقدنا هذه الحاسّة!)، شواءَ أجساد الأطفال في غزة، ونواصل حياتنا كالمعتاد، ونحرص في الليل على تفقّد غرف أطفالنا، والتأكّد من أنّ أغطيتهم تستر كامل أجسادهم كيلا يشعروا بالبرد. المشاعر في كامل قيافتها، والوجدان يأتلق بهندامه الأنيق. يا لحظّ البلاغة التعيس!
الذي حطّمته الحرب، فيما حطّمت، هو استحالة صفاء المشاعر. العالم فقد الإحساس بكلّ القيم الأخلاقيّة التي سطرها الفلاسفة والأنبياء والشعراء والثوّار والشهداء. وتلك ستكون عناوين الزمن المقبل: زمن بلا مشاعر، بلا تآخٍ، بلا هذر مفرط عن الإنسانيّة. التعاطف خِرقة بالية، والدمع رذاذ ماء سال على جبهتنا من نافورة طائشة.
عندما قال الشاعر الإنجليزي كيبلنغ، في نهاية القرن التاسع عشر، إنّ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، كان يتحدث عن زمن مبسّط تتحكّم فيه الأيديولوجيا والنزعات الإمبراطوريّة، وترسم خطوط التماس بين الهمجيّة والتحضّر. الآن التحضّر يرصف الطرق أمام فيالق الهمجيّة، ويمهد السماوات كي تحلّق الطائرات المحمّلة بالموت الزؤام المحدق بمشفى في غزّة أو مخبز، أو سيّارة إسعاف، أو مسجد أو كنيسة، أو أي هدف يتحرّك فترصده عين القنّاص المحلّق في الأعالي المزهو: ها قد قصفنا مدرسة يختبىء بها الأطفال الإرهابيّون الرضّع.. هللويا!
أعن موت الضمير أتحدّث؟ كلا إنّ الأمر أبعد من ذلك. لعلّ في الأفق يلوح وقت أشدّ شراسة: موت الإنسان.
سيذهب هذا الكلام ببعضهم إلى الظنّ بنزوع هذه الكتابة نحو العدم. أقول ربما. أو لم لا. هل ثمة خيار أمام هذا الفناء المبرمج للخير، سوى أن يقترح الكاتب مهرباً للنجاة من أسر الأفكار المخدّرة؟
عن العالم أجمع، تتحدّث الكتابة، لا عن عرب "أطاعوا رومهم، عرب وباعوا روحهم، عرب وضاعوا"، بل وأيضاً عن الذين صدّعوا رؤوسنا طوال قرون بالديمقراطيّة والحريّة والعدالة وحقوق الإنسان. عن الفلاسفة الأخلاقيّين. عن روّاد القيم والإخاء والتضامن. عن الكهنة والعابدين، عن منصّة الفاتيكان التي اشتاقت للرأفة منذ السابع عشر من أكتوبر 2023.
في الحرب، ليس ثمة منتصر ومهزوم. ثمة قاتل ومقتول، وثمة ضحايا، فحتى الجنديّ المدجّج بأوهامه وغطرسته هو ضحيّة في النهاية. وفي الموت يتساوى الصمت المبرَم. ثمة فرق بين الصمت الراعف بالدم، وصمت يوشك أن تفترّ منه ابتسامة حيية أو هازئة.
أهرب من تخيّل اليوم التالي عندما تذهب الدبّابات والجنود إلى الثكنات. وماذا بعد؟ سيكون بعدٌ بلا ريب، وستكون حرب. لقد شهدتُ منذ انقذفتُ إلى هذه الدنيا حروباً لا تتوقّف لم ينتصر فيها إلا الموت، وكنتُ منذ الصرخة الأولى أوّلَ القتلى وآخرَ من سيموت. عن القيمة المبتذلة للانتصار أهذي!
ومنذ امرىء القيس وأنا أسمع من يحوّر المعنى: اليوم حرب وغداً حرب. كان القائد المظفّر ضجراً فأراد أن يشنّ حرباً كيلا لا يفترسه التثاؤب. وكانت الدولة العظمى تئنّ من التضخّم ومن ركود مصانع الأسلحة، فأعلنت نزاعاً هنا وحرباً هناك فنشطت البورصة، وانتعشت الأسواق، وسرى الأدرينالين في عروق العالم بحيوية. إنه أدرينالين يشتقّ حراكه من أنين الضحايا وصرخات المعذَّبين. كم جبهة مشتعلة بالحروب والقتلى فيما تقارب هذا الكتابة الهراءَ وتقلّبه، وهي تحاول إحصاء الأرباح في المصارف، والجثث السعيدة في ثلّاجات الموتى؟
وهل ثمة جثث تعيسة؟ نعم. إنها نحن الذين نُسأل، غير مرّة في النهارات المبلّلة بالعار، عن أحوالنا ونجيب: إننا بخير.
لا لسنا بخير، ولن نكون أبداً!