طهبوب يكتب: حكاية يوخفيذ !
عامر طهبوب
26-10-2023 06:00 PM
عندما تراجعت الأسيرة الإسرائيلية المسنة "يوخيفذ ليفشيتس" خطوة إلى الوراء، والتفتت إلى أحد عناصر القسام من المسلحين لمصافحته باليد، وقالت: "شلوم"، فصافحها وهز يدها مودعاً، لحظة يتوقف عندها الإنسان الطبيعي في أيام الحرب، لم يظهر على المرأة أي مظهر للقلق أو الخوف، بدت مطمئنة وهادئة، وكنت أتساءل عن هذه الطمأنينة التي بدت على وجه المرأة المتعبة، وما وراءها. كنت أتمنى أن أعرف الظروف التي عاشت فيها تلك المرأة اليهودية خلال أيام الأسر، إلى أن فوجئت بالمؤتمر الصحفي الذي عقدته "يوخيفذ" في المستشفى الذي توجهت إليه، بعد أن تعرضت للتحقيق من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية.
تعمدت أن أشاهد الشريط المسجل للمؤتمر الصحفي الذي ظهرت فيه ابنتها إلى جانبها أكثر من عشر مرات، أستمع، وأقرأ لغة الجسد، وأراقب وجهها، ووجوه من حولها، وكل حركة تصدر عن كل من ظهر في ذلك الشريط، وللحق، لامَسَت المرأة، الإنسان الذي في داخلي، كلماتها أثرت بي تأثيراً كبيراً، وكان السؤال الأول الذي وجه إليها: لماذا قمت بمصافحة رجل حماس عندما عبرت إلى الجانب الآخر؟ السؤال مشروع ومبرر وسط الهجمة الإسرائيلية المسعورة، وبعد اختطاف الأسرى على يد حماس في السابع من أكتوبر، لتكون "يوخفيذ" واحدة من أؤلئك الذين جئ بهم إلى غزة، قالت دون تكلف وتردد: لأنهم تعاملوا معنا بكل لطف ورحمة، وهيئوا لنا جميع مستلزماتنا وطلباتنا، وتترجم ابنتها إلى الإنجليزية: أمي تقول إنهم تعاملوا معهم بحنيّة، وزودوهم بجميع احتياجاتهم، وأضافت المرأة: لقد اهتموا بجميع مستلزمات النساء والرجال، كان لدينا شامبو، وبلسم للشعر الطويل، كنا خمسة أشخاص في الغرفة، ولكل شخص، واحد يهتم به، كانوا يلبوا لنا جميع احتياجاتنا، واهتموا بجميع التفاصيل، وهم يعلمون كيف يتعاملون مع النساء، حيث حرصوا على توفير كل ما نحتاجه، حتى المراحيض كانت نظيفة، وكانوا هم من يقومون بتنظيفها، ولسنا نحن من نقوم بالتنظيف. لم يتحدثوا معنا في السياسة، لكن تحدثوا معنا في كل شئ، كانوا ودودين جداً، اهتموا بكل شئ، وهذا شئ يحسب لهم، تعاملوا معنا بكل أدب واحترام، واهتموا بنظافتنا طوال الوقت، بطعامنا، وأكلنا من أكلهم، الطعام فطائر، وجبنة بيضاء، ولبنة، وخيار، اهتموا جداً بالجانب الطبي، أن لا نمرض عندهم لا سمح الله، وكان هناك طبيب مرافق لنا، يأتي كل يومين، ومسعف طوارئ أخذ على عاتقة المسؤولية اهتم أن يحضر لنا الدواء اللازم، وإن لم يكن لديهم دواء مطابق، كانوا يحضرون لنا دواءً شبيهاً. وعندها استفسر أحد الصحفيين عن ما قصدته بالدواء الشبيه، فقالت له بالعبرية مفسرة: "ماكبيلوت"، وهو الدواء الذي يحمل نفس التركيبة الكيماوية لدواء باسم آخر.
قالت الأسيرة المحررة "يوخفيذ": "كان معنا أسيراً وقع عن الدراجة النارية عندما خطفوه، وقعت له إصابات في يديه وقدميه، رافقه مسعف طوال الوقت، قدم له العلاج، وهو الآن في وضع جيد جداً، وكان يتلقى مضاداً حيوياً طيلة خمسة أيام، والآن كل شئ عنده على ما يرام"، وهنا وفي تلك اللحظة، وأنا أتحدث عن لغة الجسد، ابتسمت ابنتها وهي توجه نظرها إلى أمها، ابتسامة إعجاب بإنصاف أمها، وقلبها الجميل، وبإمكانكم العودة إلى تلك اللقطة، ومراقبة وجه ابنتها، وابتسامتها التي تحمل معان عميقة، أقلها يقول: لا تستوي الحسنة بالسيئة، ونعم للإنصاف، وللسردية الصادقة المنصفة. لماذا صافحت الرجل؟ لأنهم تعاملوا معنا بأدب وحنية. استأذنت ابنتها رجل أمن يقف خلفها فيما إذا بإمكانها ترجمة الحكاية الأخيرة من حديث أمها عن المصاب الذي أصبح بحالة جيدة: هل أستطيع ترجمة ما قالت؟ قال: نعم، فترجمت إلى الإنجليزية.
على الجانب الآخر، تجد الوجه البشع للاحتلال، والمستوطنين الإسرائيليين الذين ملأت قلوبهم الحقد، وألفوا الكذب والتلفيق والقتل، فخرج واحد من المحللين على القناة الرابعة عشرة الإسرائيلية، يقول إن هذه المقابلة فيها ضرر كبير لإسرائيل، سوف يستغلوا هذا اللقاء، ويترجمونه، ويعدونه، ويمنتجونه، على أساس أن حماس تنظيم إنساني، وأنه يتعامل بشكل إنساني مع الأسرى، هذه المقابلة تنفي الجرائم التي حدثت وشهادات رجال الإسعاف، هذه التصريحات فيها ضرر كبير لإسرائيل، وسيخدم حماس، وخسارة لنا.
قالت إسرائيلية أخرى بعصبية مفرطة وعلى نفس المحطة: يجب أن نعلم من الذي نظم هذا المؤتمر، إذا كانت إدارة المستشفى، فهذا عار عظيم، هناك أجهزة أمن تجري لقاءات مع المحررين، حتى لو كانت معلومات إيجابية، لا أرى أي سبب لبث هذا اللقاء، كان يجب أن نكتفي بأنه أطلق سراحهم، وصورة لهم فقط، والاستمرار في الحرب، ويقول آخر: المؤتمر الصحفي كان يجب أن لا يحدث، على الصعيد الإنساني، لا يجب أن نعرض هذه السيدة أمام كمية من الصحفيين. ما أراه فشل كبير، كان يجب علينا أن نبقيها في غرفتها، وأن نجعلها تتحدث، وبعد ذلك نعرض ما نريد، كما يفعل وزير الدفاع ورئيس الحكومة، وحتى على مستوى التصريحات التي صدرت عنها، وهي تستطيع قول ما تريد، ولكن يجب على أجهزة الأمن أن تمر على هذه التصريحات، وتقرر ماذا يصرح، وماذا يمنع، وهناك أمور لا نريد أن تقال في العلن، ولكن نتمنى أن نأخذ العبر.
الرواية الرسمية عبر الإعلام العبري قالت: "الأسيرة المحررة يوخفيذ ليفشيتس، تحدثت عن لحظات الخطف، وقالت إننا مشينا كيلومترات في الأنفاق تحت الأرض، وضربوني بالعصا". حاولت إسرائيل لملمة المسألة، وإعادة الكذب إلى نصابه، فاستضافت ابن "يوخفيذ"، فقيل له: أنت تقول أن "الشاباك" التقى بأمك، هل قاموا بإرشادها أولاً، ماذا تقول، وماذا لا تقول؟ قال ابنها: يجب أن أقول أنه إذا كان أحد يعتقد، أنه بسبب إطلاق سراح والدتي، أصبحت والدتي ملك الدولة، وتخدم أجندة الدولة في الاجتياح ضد إطلاق سراح الأسرى، من يريد أن يفرض قوانين الغابة فهو مخطئ، والدتي لديها رأي، وتقول الحقيقة بشكل واضح، ولن تقول كلمة واحدة أرادوا أن تقولها، بالعكس، كان من الصعب أن تتحدث، ومع ذلك تحدثت.
متحدث إسرائيلي آخر قال: ما حدث خطأ استراتيجي، في النهاية كل ما نقوله في الاستوديو، وحماس ظهرت أنها هي الصادقة، والصالحة والإنسانية، هؤلاء المجانين هم الذين يقتلون ويقطعون الرؤوس، فجأة أصبحوا هم الإنسانيون الذين يجلبون طبيباً للأسرى. ما الذي يحدث؟ مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قال في بيان رسمي: "تصريحات المحتجزة المفرج عنها كانت مفاجأة صادمة لنا، وسببت لإسرائيل ضرراً دعائياً، وإضعافاً وتقويضاً لجهود الدعاية الإسرائيلية". إنها مسألة دعاية، لا أكثر، والحقيقة براء.
أنقل لكم هنا تفاصيل التفاصيل في حكاية إنسانية حاربتها إسرائيل، دحضت المرأة بصدقيتها وعفويتها، السردية الإسرائيلية الكاذبة حول الوحوش الهمج في غزة، وحكاية قطع رؤوس الأطفال. قال الإسرائيلي "ياكي أدامكر": كان ينبغي تسجيل المقابلة، وحذف أجزاء منها قبل بثها، نحن في حالة حرب، وفي الحرب ممنوع إذاعة رسائل لم يحلم العدو بنشرها للعالم. وقال آخر: هذه المقابلة كان من الممكن منعها تماماً وليس فقط تسجيلها مسبقاً، لو كانت لدينا قيادة لا تهتم بالانتخابات فقط. وقال آخر: لسوء الحظ ،حماس تتصرف بذكاء، ويطلقون سراح أؤلئك الذين كانوا ودودين معهم على وجه التحديد لهذا السبب.
شكراً للأسيرة المحررة التي ما كنت أتمنى أن يتم أسرها وأسر أمثالها من كبار السن، ولكن وقد حدث ما حدث، فإن التجربة التي خاضتها "يوخفيذ" مثيرة وجدلية، تحاكي حكايات الحب في الحرب، وتنفي الكذب، وتكسر آلة الدعاية الإسرائيلية التي شيطنت الفلسطيني، تجربة ثرية لعبور الأنفاق، وأكل الفطاير في غزة، والجبن الفلسطيني، واللبنة، والكلمة الطيبة، والحنيّة تحت الأرض، وهي ترى قصف جيشها لأطفال غزة عندما تسوّي أجسادهم بالأرض، وتستحق هذه المرأة العجوز أن يقال لها "شلوم"، وأن يقال لها "تُدا" !