تذكرنا حرب إسرائيل وتحشيدها البري على حدود غزة بهدف اقتحام المدينة (ولربما تكون المعركة قد بدأت عند نشر هذه المقالة) بما جرى عام 480 قبل الميلاد، حين هاجم الجيش الفارسي ثلاثمائة من المقاتلين الإسبارطيين بقيادة مليكهم آنذاك، وقد تغلبت الكثرة على الشجاعة، ومات كل المحاربين الثلاثمائة وسميت تلك المعركة ثيرموبيلاي Thermopylae نسبة إلى العيون الكبريتية الساخنة الموجودة في موقع تلك المعركة.
ومع أن عدد محاربي المقاومة الفلسطينية داخل غزة، على أرضها وتحتها، غير معروف، إلا أنهم لا يزيدون عن عدد من الآلاف الذين آمنوا بربهم، وفرضت عليهم المعركة دفاعاً عن القدس. لكنهم على عكس أبطال إسبارطا، لا يلاقون التمجيد بل هناك كثير من السياسيين الذين يتهمونهم بالإرهاب، خاصة في دنيا الغرب المنافق للصهيونية ولإسرائيل.
ومهما كان مصيرهم، فإن إسرائيل تاريخياً دخلت نفق النهاية، وحشَّدت العرب والمسلمين ضدها، ولن تهدأ بالاً بسبب الغرور والغطرسة، كما يقول توماس فريدمان في مقالة مستعجلة دفع بها إلى صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 16 من أكتوبر 2023 يتساءل فيها محذراً من خطأ فكرة الدخول البري إلى غزة وما قد يسببه من خسائر للمعتدي.
ولكن السؤال الذي لا ينفك يثار دائماً، لماذا هذا العداء السافر للعرب والفلسطينيين من قبل الغرب؟ ولماذا هذا التحيز الأعمى لإسرائيل من دون وازع أخلاقي؟.
لقد دوَّت صيحة الملك عبدالله الثاني يوم الحادي والعشرين من هذا الشهر في أروقة مؤتمر السلام الذي عقد بالقاهرة في نفس اليوم، حين تساءل غاضباً: "هل حياة الفلسطينيين لا تساوي حياة الإسرائيليين؟ وهل حياتنا أقل أهمية من حياة الآخرين؟ إن هذه رسالة خطيرة، وسيكون ما تفعله إسرائيل جريمة حرب بكل المقاييس".
وعند ذِكر الإدانة لمواقف حماس، تذكرت القائد الفرنسي هنري غورو Henri Gouraud الذي أنهى الحكم الهاشمي في سورية، وذهب إلى قبر صلاح الدين بقرب الجامع الأموي في دمشق ليقول: "لقد عدنا... الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين"، وذلك في شهر أغسطس/ آب عام 1920.
وقد ذكرت هذه الحكاية المؤرِّخة الفرنسية Anne-Marie Eddè، أو آن ماري إدي، في كتابها الموسوم "صلاح الدين" Saladin، والمنشور مترجماً باللغة الإنكليزية عام 2012 عن دار "بارنز ونوبل" الشهيرة.
هناك إذاً لدى العرق الأبيض الأوروبي حقد ليس على العرب والمسلمين موروث قديم، ولكن لهم نفس الحقد وأكثر على اليهود. وسعوا دائماً إلى طردهم. ففي منتصف القرن التاسع عشر، بدأت حركة السعي لإخراج اليهود من بريطانيا.
وكذلك عانت الطوائف اليهودية في إسبانيا ما عاناه المسلمون بعد احتلال المدن الأندلسية، وآخرها غرناطة عام 1492، ونراه كذلك في شعر شكسبير (تاجر البندقية) وروايات تشارلز ديكنز (أوليفر تويست). ولا ننسى ما لاقاه اليهود على أيدي النازيين، الذين ينظرون إلى العرب بعين التحقير كذلك. إذاً، كان الدافع التخلص من اليهود في أوروبا كلها وليست بريطانيا وحدها.
إذن فاللاسامية بمفهومها الموسع ليست حكراً على العرب أو اليهود، بل في كثير من الأحيان ضد الاثنين معاً. ولكن هذا الأمر عندما أدى إلى بناء كيان صهيوني في العالم العربي، وفي فلسطين، فقد وقع الخلاف الذي تقف من ورائه أوروبا بالذات.
ولكن من الغبن القول إن الدافع وراء إنشاء هذا الكيان هو الكره والعنصرية فقط، بل فإن الدافع وراءه اقتصادي نفطي أيضاً.
وعندما اكتشف النفط في عبدان بإيران عام 1909، تكثفت الجهود لخلق إسرائيل، حتى إنه فُكر بخلقها في شرق الجزيرة العربية قرب أحواض النفط الكبرى، ولكن اختيار فلسطين لم يكن جزافاً، بل لأنها تقع في منطقة هامة في بلاد الشام والمشرق العربي، ولأن بالإمكان الاستفادة من الحقائق والكتب السماوية في خلق رواية تبرر عودة اليهود إلى ما يسمى بوطنهم الأصلي (يهودا والسامرة).
ولكن الحركة الصهيونية وسعت ذلك المفهوم إلى كل مكان سكنه اليهود في ماضي الأزمان، مثل مصر أيام الهكسوس، والعراق كذلك، وتبنوا شعار "من النيل إلى الفرات"، ولكن السبب الحقيقي كان النفط، ولذلك وصف بعض المؤرخين إسرائيل بأنها ظاهرة نفطية.
والسبب الآخر هو أن فلسطين، كما كان حال معظم الدول العربية، واقعة تحت الحكم العثماني إبان المسألة الشرقية (Eastern question) والتي ألف عنها الزعيم المصري مصطفى كمال كتاباً بنفس العنوان، وحيث إن أوروبا كانت مشغولة في نهاية القرن التاسع عشر بعقد مؤتمر إثر آخر لوراثة تركة رجل أوروبا المريض (الإمبراطورية العثمانية)، فإن الحركة الصهيونية، ومن ورائها رأس المال اليهودي، هي التي ساهمت بتمويل الدول الغربية في الحروب الإقليمية والدولية (الحربين العالميتين).
وهكذا صار لليهود نصيب في الضغط على الدول المدينة لها لتطالبها بتنفيذ وعدها في فلسطين، ولذلك نرى أن وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني حصل عام 1917 قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، وهو نفس العام الذي صدر فيه وعد بلفور في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني)، والذي يصادف مرور 126 عاماً على صدوره بعد أيام قليلة.
ولما أنشئت إسرائيل وهزمت الجيوش السبعة العربية عام 1948، لم يبلغ عدد الجيوش العربية المحاربة في فلسطين عدد قوات العصابات اليهودية أمثال الأرغون، وشتيرن، والهاغانا، وتفوقت عليهم بالسلاح.
وحارب الفلسطينيون بكل طاقتهم ولكن سلاحهم وإمكاناتهم كانت محدودة، أما الجيش العربي الأردني فقد أبدى شجاعة منقطعة النظير بعد اعلان إنشاء إسرائيل، واستمر في خوض معركة باب الواد أكثر من ثلاثة وثلاثين يوماً، ما دفع العصابات اليهودية للتخلي عن فكرة احتلال القدس الشرقية حيث تقع الأماكن المقدسة داخل أسوار المدينة القديمة.
وقد تحررت دول عربية بعد عام 1948 أو قبلها بقليل من الاستعمارين البريطاني والفرنسي، مثل الأردن عام 1946 وقبل انضمام الضفة الغربية رسمياً إليه عام 1959، وبدأ صراع أميركي أوروبي في الخمسينيات من القرن الماضي، حين خرج الرئيس الأميركي بنظرية "هناك فراغ في الشرق الأوسط يجب ملؤه من قبل الولايات المتحدة".
وهذا أدى إلى حدثين هامين: الأول هو محاولة المملكة المتحدة في عام 1955، خاصة تحت إدارة رئيس الوزراء إنتوني إيدن (A. Eden) وإنشاء حلف بغداد الذي وضع ليضم كلاً من ايران وتركيا والعراق والأردن، والذي أفشله الأميركان، والثاني إفشال حملة السويس التي شاركت إسرائيل فيها مع كل من المملكة المتحدة وفرنسا بعدما أمم الرئيس جمال عبدالناصر قناة السويس.
وهكذا تفوق النفوذ الأميركي في المنطقة، وسارعت الحركة الصهيونية العالمية لتضع وزنها وثقلها في الولايات المتحدة التي هاجر إليها كثير من اليهود من أوروبا خاصة.
وهكذا صارت إسرائيل حليفاً قوياً للولايات المتحدة تستخدمها متى شاءت مقابل أن تبقي لإسرائيل تفوقها العسكري، كما حصل لاحقاً في الأعوام 1967 و1973 و1982 وكل الحروب التي تلت حتى الآن.
الحقيقة أننا لا نعلم تماماً أيهما استغل الآخر، هل الحركة الصهيونية هي التي استغلت الولايات المتحدة أم العكس، يكفي أن نتذكر أن كلاً من أوبنهايمر (J.R Openhaimer) المشرف على إنتاج القنبلة النووية في مشروع مانهاتن وصامويل كوهين ( S. J. Cohen) أبي القنبلة النيوترونية، وكذلك إدوارد تيلر ( E. Teller) أبي القنبلة الهيدروجينية والمشارك في مشروع مانهاتن، يهود، والاثنين الأخيرين هاجرا إلى الولايات المتحدة من بريطانيا وألمانيا. علماً أن كوهين كان في الأصل نمساوياً وتيلر هنغارياً.
ولكن فريقاً من الجواسيس العاملين للاتحاد السوفييتي، ومعظمهم من اليهود، هم الذين سربوا معلومات سرية هامة من داخل المختبرات النووية للولايات المتحدة مكنت السوفييت من التسلح نووياً.
واليهود بالمقابل وجدوا في أميركا والغرب مناخاً من الليبرالية، ما مكنهم من ركوب موجتها، والاستفادة من إمكاناتها التكنولوجية وأسواقها ومواردها، ما أتاح لهم فرص الثراء الكبير.
وتسيطر سبع أو ثمان من الأسر فاحشة الثراء من اليهود على حوالي 50% من ثروة العالم في النقد وأوراقه وأدواته.
العلاقة هذه لا تزال قوية.
وصحيح أن الله غالب على أمره، ولكن إسرائيل لم ينته دورها الوظيفي في الوطن العربي، وهم يحتاجون القاعدة إسرائيل لكي يتمكنوا من خلالها من تأسيس علاقات متينة مستقبلية مع القوتين الصاعدتين في آسيا، وهما الهند والصين، أو كبح جماح نفوذهما في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
حماس بحركتها ومقاومتها هددت مخططهم، ووقوف العرب ضد إسرائيل وقفة صامدة بات ضرورياً، فانتبهوا أيها العرب.
"العربي الجديد"