هذا عالم جديد يفرض مفرداته الجديدة والنوعية حتى في الحروب التي تحدث. ومن المعيب أن يكون عالما جديدا لا يزال فيه قتل الإنسان للإنسان حالة حاضرة تعيد إنتاج حضارة رجل الكهف الأول.
تقدمت التكنولوجيا في عالم اليوم إلى حد يتجاوز وتيرة الإدراك العادي، وهذا التقدم التكنولوجي توازى مع حالة متقدمة من تقديم المعرفة والإعلام إلى حد أن الحدث الذي يحدث في نقطة ما على الكوكب يصبح خبرا متداولا بأجزاء من الثانية، وهو ما جعل معالجة الخبر نفسه مدعوم بتكنولوجيا تساعد على التضليل وتوجيه الرأي العام الذي تتلاحق في راحة يده الأخبار، مشغولة ومعالجة باحترافية تشكل الرأي وتقوده.
الأمثلة على "التضليل" ولي عنق الحقائق كثيرة، وتجلت أكثر في أزمات إنسانية معاصرة وحديثة ليس بدءا من جائحة كورونا التي لا يزال الجدل حولها قائما لكنها "وبقوة المعرفة التكنولوجية وسرعتها" صنعت أكبر حالة حجر عرفها التاريخ الإنساني، والتضليل كان حاضرا في الحرب الأوكرانية التي كشفت في تداعيات اللجوء الأوكراني إلى أوروبا نسبية المعايير الأخلاقية في مواجهة مفهوم اللجوء الإنساني.
لكن في أحداث غزة الأخيرة، كان التجلي الأكبر لبشاعة التضليل وازدواجية المعايير في أكبر حمام دم، يوازي الهولوكوست، لكنه حمام دم فلسطيني بالمجمل.
منذ بداية الحرب الأخيرة في غزة، والرواية الإسرائيلية تحاول خطف الرأي العام العالمي مدججة بكل ما تملك من قدرة تكنولوجية ومعرفية في عالم الإعلام الحديث، مستندة على ذات رواية الهولوكوست، ومرتكزة على الافتتاحية المفاجئة والمباغتة لحماس في اختراق منظومتها الاستيطانية والسيبرانية معا في السابع من أكتوبر.
ما بعد السابع من أكتوبر، كانت الرغبة الانتقامية وهي كامنة أساسا في عقل اليمين المتطرف الحاكم في تل أبيب قد أطلقت نفسها في هجوم شرس وعنيف ودموي استهدف غزة بكل ما فيها، وصار واضحا أن هذه الحرب الإسرائيلية المتطرفة تهدف إلى تحقيق هدفين: الإبادة قدر الإمكان والتهجير.
الخطاب الإعلامي الغربي تبنى الرواية الإسرائيلية وحرب الصور السريعة واللقطات الخبيثة المنتقاة بعناية والتجييش المستند على استدرار العاطفة واستحضار الذاكرة "الهولوكستية" أعطى مفعولا جيدا خصوصا أنه وفي الأيام الأولى كانت المرافعات الدفاعية عن حماس من قبل المتعاطفين مع حماس أنفسهم.
لكن، ومع طول أمد الهجمة الشرسة، كانت الحقائق تنكشف تباعا، وظهرت الوجوه التي لا يمكن أن يزاود عليها أحد في الخطاب الإنساني والليبرالي المتمدن والحضاري ضمن كل المقاييس الغربية.
هذه الوجوه لها ثقلها ووزنها الحاسم في الحضور، ومنها إعلاميون وصحفيون وناشطون وسياسيون ولاعبو رياضة وفنانون ومشاهير.
الأكثر ثقلا، هم القادة، طبقة القيادة من صانعي القرار، خصوصا المعروفين عالميا وبصورة نمطية راسخة أنهم ضد الإرهاب كموقف مبدأي واضح.
في جولته الأوروبية، كان الملك عبدالله الثاني حاسما وحازما في مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني، كان سريعا في الإجابة والرد الفوري بتوازن شديد اللهجة لا يمكن تصنيفه أنه مع "حماس" لكنه مع الإنسان الفلسطيني وحقوقه، وبدون أدنى تردد وأمام مضيفه الألماني أدان الإبادة الإسرائيلية وحذر بشدة من حملة تهجير واعتبرها إعلان حرب.
أكمل الملك رسالته في قمة القاهرة بخطاب متفوق موجه للرأي العام العالمي، وهو خطاب لقي أثره الحقيقي في أوساط أوروبية توقفت مليا أمام رجل كان أول الواقفين ضد الإرهاب الذي استهدف قارتهم كل مرة، ويحمل أكثر من تكريم أوروبي عنوانه السلام.
ولتكتمل الصورة، وبدون أي تزلف من طرفنا، كانت الملكة رانيا العبدالله منذ الساعات الأولى للهجوم على غزة قد اتخذت موقفها الإنساني والسياسي معا، عبر منصات التواصل الاجتماعي ترسل الرسائل التي لا يمكن لأحد من "العالم المتمدن" أن يشكك فيها وتنتهي على شاشة السي إن إن بلقاء أقل ما يقال فيه أني فكرت بتفريغه عربيا واعتماده مقال رأي يمثلني بدلا من هذا المقال.
كانت الملكة "جليلة" بموقفها وسيكون لخطابها المتماسك أثره القوي كمدفعية ناعمة وثقيلة في إعادة توجيه الرأي العام العالمي من جديد.
آن للعالم أن يستمع لصوت العقل ووقف الدم أولا.
الغد