دون انفعال، أو افتعال انفعال، وبهدوء، وعقلانية، ومعرفة، ورؤية سياسية عميقة ثاقبة، لخصت الملكة رانيا العبد الله مجمل حكاية فلسطين من أولها إلى آخرها، إجاباتها عالية الصوت دون صراخ، كانت الملكة ملكة أردنية، ومواطنة أردنية، بقلب فلسطيني، وأخلاق إنسانية سامية، وروحاً حرة تسعى إلى تحقيق العدالة والإنصاف، سمّت الأشياء بأسمائها الأولى، أعادت الكرة إلى الملعب الأول، الهجرة الأولى، النكبة الأولى، ووضعت على طاولة خالية من الأغطية، كل عيوب النظام العالمي الذي يدعي احترام حقوق الإنسان، والسعي إلى حرية الشعوب.
أمطرت الملكة "كريستيان أمانبور" في "سي. إن. إن" بأسئلة صعبة، لا تستطيع أو لا تجرؤ "كريستيان"، ولا الدول التي تدعي بأنها من صف "العالم الحر" الإجابة عليها، ولا حتى على سؤال منها، أسئلة ساخرة موجعة جارحة لازمة. بهرتني الملكة في إجاباتها، وفي أسئلتها على السواء، والأسئلة والتساؤلات التي طرحتها كثيرة وشائكة، والإجابة عليها مخجلة لمن يعنيه السؤال، بدت لي سياسية من طراز فريد، وإعلامية مهنية متمرسة حذقة.
كانت الملكة على إدراك عميق مسبق للعبة أسئلة الإعلام الغربي عندما ينصُب الأفخاخ والمصائد، وكان الفخ الأول الذي نصبته "كريستيان" عن قصد أو عن غير قصد، بحكم عملها في محطة تلفزيونية أميركية غربية منحازة: أريد أن أعرف منك، ماذا شعرت يوم السابع من أكتوبر؟ أجابت الملكة ما يفيد أنها صدمت، وأنها ضد قتل المدنيين من أي جانب، كانت فطِنة في الإشارة إلى أن هذا الصراع، لم يبدأ يوم السابع من أكتوبر، قالت: هذه قصة عمرها 75 عاماً، قصة قتل، وتهجير للشعب الفلسطيني، إنها قصة احتلال تحت نظام فصل عنصري.
ومن الأسئلة التي طرحتها الملكة، ولا تقل أسئلتها أهمية عن الأجوبة: هل من الخطأ قتل عائلة كاملة بالرصاص، ولا مانع من قصف عائلة أخرى حتى الموت؟ هل يمكن اعتبار قتل ستة آلاف مدني في غزة حتى الآن، دفاعاً عن النفس؟ لماذا عندما ترتكب إسرائيل هذه الأعمال الوحشية، يأتي ذلك تحت غطاء الدفاع عن النفس، وعندما يأتي العنف من جانب الفلسطينيين، يسمى على الفور إرهاباً؟ ذلك ما أسمَته: "التجانس المغلوط"، أو "المعايير المزدوجة"، ثم تسأل: لماذا يتبنى الغرب دائماً الرواية الإسرائيلية، ولماذا توصف الأعمال يوم السابع من أكتوبر بالهمجية، والوحشية، والتعطش للدماء، والقتل بدم بارد، ولا نرى هذه المصطلحات تستخدم لوصف الوضع في غزة على الرغم من أن الأعمال الوحشية، أشد وأعظم.
ربما يكون أخطر ما وجهته الملكة من تساؤلات، تلك المتعلقة بامتحان إنسانية الفلسطيني، أو من يمثل ما هو فلسطيني، لماذا عندما يمثل أحد ما القضية الفلسطينية، يجب أن يتم امتحان إنسانيته في بداية المقابلة؟ لماذا عليه أن يقدم أوراق اعتماده الأخلاقية، بالإجابة عن سؤال: هل تُدين؟ قالت أم الحسين: لم أر مسؤولاً في الديمقراطيات الغربية، من يقول جملة: "للفلسطينيين الحق في الدفاع عن أنفسهم"، وتساءلت: يبدو أن حرية التعبير قيمة عالية في الديمقراطيات الغربية، إلا عندما تذكر فلسطين.
ربما أكون قد استمعت وشاهدت كل المقابلات التي أجريت مع جلالة الملكة رانيا، وأكاد أجزم، ولماذا أكاد، إنني أجزم أن هذه المقابلة هي شجرة الدر في كل مقابلاتها، سياسية محنكة من طراز رفيع، أردنية حتى النخاع، وفلسطينية دون تردد، وإنسانة في الأول والآخر، تحمل نفس رؤيا الملك، ونفس رؤيا الشعب، وعندما سئلت عن المظاهرات، وقلق توسع الحرب والامتداد، عرفت الملكة ما وراء الأكمة، والساتر خلف السؤال، فأجابت من الآخر لا الأول: "قد تشعرين بالقلق، إن كان هناك انقساماً. نحن متحدون في موقفنا، كلنا نؤمن بالأمر ذاته، نشعر جميعاً بنفس الألم، وكلنا نريد الشئ نفسه". قالت الملكة ما تريد قوله، بصياغات متعددة !
ليس هناك أعمق من حكمة قالتها الملكة: النصر فكرة خاطئة، يصنعها الساسة من أجل تبرير الخسائر الفادحة في الأرواح، وحتى لو هَزَمت إسرائيل، وقتلت كل عضو في حماس، فماذا بعد؟ لم تترك السؤال مفتوحاً هذه المرّة، بل أجابت عليه، وقد أجادت الإجابة بوضوح وصراحة: ذكريات مروعة، من شأنها أن تخلق جيلاً من المقاومة الأشد.
أذهلتني الملكة، في إجاباتها وأسئلتها وتساؤلاتها، وعرضها للقضية الفلسطينية بهذه الجرأة، وعمق المعرفة، والإحاطة، نبضها نبض الشارع، حسها حس أبناء الوطن، تحدثت عن "الفصل العنصري" فنصبت لها "كريستيان" فخاً آخر عندما سألتها عن ما يمكن أن يوجه لها من نقد، وبلدها مرتبط بمعاهدة سلام مع إسرائيل، قاطعتها الملكة، وقالت: دعيني أوضح أن تسمية "الفصل العنصري"، أُطلقت من قبل منظمات إسرائيلية ودولية لحقوق الإنسان، والجدار العازل، اعتبر من قبل محكمة العدل الدولية - في لاهاي - غير قانوني، وقد قسّم الأراضي إلى مائتي منطقة محصورة ومنفصلة.
كانت الملكة جريئة، شجاعة، هادئة، ومنطقية في الحديث عن القضية الفلسطينية، بشفافية وموضوعية وصراحة، وأن تخيير الفلسطيني بين التهجير أو الموت، التطهير أو العقاب الجماعي، الإبعاد أو الإبادة، لا يجوز، ولا يجوز وضع شعب في ظل مثل هذه الخيارات، ومن أهم ما قالته في المقابلة أن التركيز في هذه الأيام، مفرط على حماس، لكن المسألة تسبق حماس بكثير، وستستمر بعد حماس، وأن هذا صراع من أجل الحرية والعدالة، وهذا ما يجب سماعه، صراع بين محتل يمتلك جيشاً من أعتى جيوش العالم، وآخر لا يمتلك جيشاً على الإطلاق، وهي تؤكد أن معظم أبناء غزة هم من أبناء النكبة الذين هُجّروا من أراضيهم عام 1948، وأنه لا يوجد إلا طريق واحدة لحل هذا الصراع؛ طاولة مفاوضات تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية حرة وذات سيادة ومستقلة، وأن حليف إسرائيل، لا يجب عليه أن يقدم لها خدمة، عن طريق الدعم الأعمى لتعجيل وتوسيع نطاق الصراع.