تطرز غزة هذه الأيام قصصاً لم تعرفها شعوب الأرض من قبل، وحكايات إنسانية تحمل أعلى درجات السخرية، وأعقد أبجديات الألم، تُعمل غزة مخيلة الشعوب، تعلّمهم معاني الفقدان، توقظ العالم على صور لم يشهدها، وسرديات لم يقرأ مثلها، ومشاهد لم يكن يراها إلا في أفلام قتل "هوليوودية" تستخدم فيها أسلحة غير موجودة على أرض الواقع، أسلحة فضائية قاتلة وقادرة على الإبادة، وكلها تطبيقات خيال، وإبداعات كمبيوتر، تلك الأفلام التي يتابعها عشاق مشاهدة العنف، والتدمير، والانتقام، ولكن عزاء المشاهدين في نهاية الفيلم، أن ما يشاهدونه ليس أكثر من فيلم سينمائي لا يتصل بالواقع.
سبقت إسرائيل "هوليوود"، و"رامبو"، وأفلام الزومبيات، وحولت الأجساد بالفعل إلى أشلاء متقطعة، ما دفع نساء غزة إلى كتابة أسماء أطفالهن على أرجلهم وأياديهم وبطونهم وأكتافهم وظهورهم، وقد أدركن أن كل غزي مشروع جثة في حرب قذرة، لم يعد الموت يخيف الأمهات في غزة، قدر خوفهن من فقدان الجثامين بعد أن تصبح أشلاء، الفلسطيني حريص على الأنساب، والأجساد التي تطير فوق الرماد، وتتناثر أشلاء تحت الأنقاض بعد كل قصف وقصف.
أليست هذه ظاهرة ملهمة لصناع السينما؟، أليست مفزعة أن تكتب الأم على يد ابنها: أحمد راشد صالح، اسم الأم: عبير، العمر 9 سنوات، فصيلة الدم "ئي"، ثم تنادي ابنتها: هبة راشد صالح، العمر 5 سنوات، ثم راشد، العمر 3 سنوات، ثم استدركت: "راشد ما رح يضيع عنّا، رح يعرفوه، بِضَل بحُضني، أنا كتبت على جسمي في كل مكان أنني أم أحمد وراشد وهبة، وكتبت: زوجة الشهيد فهمي صالح، سيجمعوننا معاً، ولو كنا أشلاء.
أليست هذه فكرة ملهمة لرامبو، أليست فكرة خلاقة لصانعي أفلام الموت والإبادة، أليست كافية ليتوقف الإعلام الغربي عن التوحش والنفاق والكذب؟، أليست كافية إلى "فوكس نيوز" لتقول قتلى لا موتى عند ذكر ما يحدث للفلسطيني، الإعلام الغربي يقول: قتل يوم السابع من أكتوبر 1700 إسرائيليا، ومات حتى الآن في غزة أربعة آلاف وخمسمائة فلسطيني، الإسرائيلي يُقتَل، والفلسطيني يموت، الإسرائيلي لا يموت إلا بفعل قاتل يقتله، وأما الفلسطيني فيموت، ولا أحد يذكر في هذا الإعلام فاقد الحس والإنسانية، كيف مات الفلسطيني.
الفلسطيني ألِفَ الظلم، اعتاد على اللإنصاف، ولكنه لن يفقد الهوية، لا هوية الأرض، ولا هوية الجغرافيا، ولا هوية التاريخ، ولا هوية الأشلاء المتناثرة تحت الأنقاض، والفلسطيني حريص على توثيق الانتماء، انتماء الأشلاء إلى الأرض المحروقة، والفلسطيني حريص على أن لا تضيع الجثامين، ولا الأيدي، ولا الأرجل، وأن لا يضيع الرأس، أشلاء الفلسطيني لا تتجزأ عن هويته وقضيته، ينتشلها من تحت الأنقاض، يجمعها في أكياس، ويحفظها تحت تراب أرضه.
أظن أن أطفال العالم اليوم على معرفة جيدة مم يتكون جسم الإنسان، وأعضاء الجسد، أشلاء الفلسطيني خير وسيلة لترسيخ الدرس في الأذهان؛ وخير وسيلة إيضاحية مبتكرة ومسلية، كنشاط تطبيقي للعالم الحر الأبيض، لعرض بطاقات توضيحية للجسد البشري: هذا رأس، وهذه يد، وهذا قدم، وهذه أذن، وهذه عين، وهذا هو الذراع؛ إنها خير وسيلة مستحدثة رائعة لتعليم أطفال إسرائيل في المنزل أعضاء الجسد. الشئ الوحيد الذي لا يمكن تعليمه لأطفال العالم الأبيض، دماغ الفلسطيني؛ كيف يمكن لهم أن يعرضوا عليه مائة مليار خلية عصبية لدماغ يردد: لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاءُ، لا الماء عندك، لا الدواءُ، لا السماءُ، ولا الدماءُ، ولا الشراعُ، ولا الأمامُ، ولا الوراءُ، حاصر حصارك لا مفر، سقطت ذراعك فالتقطها، واضرب عدوك لا مفر، وسقطت قربك، فالتقطني، واضرب عدوك بي، فأنت الآن حر، قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة، فاضرب بها، اضرب عدوك، لا مفر !..