بعد أن اجتاحت إسرائيل لبنان، عام 1982، سمع الناس كثيراً من القصص كيف أغرقت إسرائيل بيروت بجواسيسها، الذين جمعوا المعلومات الاستخباراتية، لسنوات طويلة، استعداداً ليوم دخول بيروت. هؤلاء الجواسيس تقمصوا شخصيات متنوعة. من متسول مسكين، ومشرد في الشوارع، وبائع متجول، وصاحب بسطة، بقي في نفس زاوية الشارع لسنين عديدة.
ات
جواسيس إسرائيل في بيروت عام 1982:
ولما دخلت القوات الإسرائيلية بيروت ذهبت إلى حيث يتواجد جواسيسها. كان جنود العدو كأنهم يعرفون كل واحد منهم، كما أفاد شهود العيان، كانوا يؤدون التحية للجاسوس، ثم يصعد في مركباتهم ويذهبون به، بعد أن أكمل مهمته. وقيل آنذاك إن هؤلاء الجواسيس كانوا يحملون رتباً عسكرية رفيعة.
إنبهر الناس من روايات سكان بيروت، وكيف كانت تعمل إسرائيل، وكيف تخطط وتدبر لسنوات، بخبث ودهاء، وسرية تامة، كي تباغت عدوها، الذي هو نحن. وتَرسَخَ أكثر وأكثر في وجداننا ووعينا أننا أمام عدوٍ لا يُقهر فعلاً. فانهزمنا من الداخل، شر هزيمة، وفقدنا الأمل في التغلب على هكذا عدو، إلى أن جاء يوم السبت، قبل اسبوعين، الذي كان حداً فاصلاً بين الوهم والحقيقة، بالنسبة لنا.
إنتهاء أُسطورة العدو الذي لا يُقهر:
ويستطيع المرء أن يقول بكل اطمئنان أن هذه الجولة الأخيرة من الصراع مع العدو قد وضعت حداً، وأنهت إلى الأبد، أسطورة العدو الذي لا يُقهر. فرغم منع النشر، تم تداول معلومات كثيرة عن العدد الحقيقي لقتلاها وجرحاها، والحجم الكبير من الدمار الذي لحق بمدنها ومستوطناتها، وبنيتها التحتية، وباقتصادها، وهيبة جيشها أمام العالم، الهيبة التى أصبحت موضعاً للتندر.
خليل: البطل الجاسوس ومستوطنة "نتيف هعسراه"
بدأت تتسرب قصص وأسرار من جانب العدو تفيد بما لا يدع مجالاً للشك أن الذي حدث لنا في اجتياح لبنان، عام 1982، قد حدث مثله للعدو يوم السابع من أكتوبر عام 2023. اليوم الذي يؤرَخ له أنه شهد أول هزيمة تلحق بإسرائيل، منذ أن زرعها المستعمرون على أرض فلسطين.
من بين ما نُشر قصة مستوطنة "نتيف هعسراه"، الواقعة ضمن غلاف غزة، شمال غرب النقب، على الحدود الشمالية مع القطاع، وهي الأقرب إلى الحد الفاصل، ولا يتجاوز عدد سكانها الألف نسمة.
تكشف إحدى المُستوطِنات أن "خليل"، العامل الغزاوي الذي أمضى سنوات طويلة يقدم خلالها خدماته للمستوطنين، تبين أنه كان بمثابة "مخبرٍ أو جاسوسٍ" لصالح المقاومة في غزة، وهو الذي ساهم في وضع خرائط مفصلة للمستوطنة، وبيوتها، وسكانها، وأسماء العائلات، وأرقام بيوتها، وعدد الأطفال، وغير ذلك من تفاصيل. وكان كلٌ من المقاومين، أثنا الهجوم، يحمل نسخة من الخارطة في جيبه. فكانوا على معرفة دقيقة بالمستوطنة قبل دخولها.
شاهدة عيان:
تصف المستوطِنة اليهودية ما حدث في هجوم السابع من أكتوبر بالقول: "سمعت صوت قذيفة كأنها صاروخ "غراد"، انقطع التيار الكهربائي، توقف المكيف، والإنترنت، وتوقفت الإتصالات. ثم جاءت خلية (من المقاومين)، يحملون في جيوبهم خرائط للمستوطنة، تتضمن معلومات في منتهى الدقة عن قاطنيها وعائلاتهم. عائلة "تاسا" مثلاً تقطن المزرعة رقم 7. "سبين تاسا" لديهم 4 أولاد، ولا يوجد كلاب. "أبراهام تاسا" يسكن هناك .. وهكذا".
وتضيف: "كان عندنا عامل، اسمه "خليل"، في منطقتنا. كان خليل طيباً ومحترماً. كلنا كنا نشفق عليه. عمل في "نتيف هعشراة" مدة 30 عاماً. كان يصبغ البيوت، ويقوم بأعمال السباكة. كان يتواجد عند هذا وعند ذاك. كنا نحضر له الطعام والماء. عمل "خليل" لدى الجميع، في "نتيف". كان جزءاً منا. كأنه كان رجل السلام بيننا وبين قطاع غزة".
الخلاصة: خيبة أمل المستوطنين بـ "البطل خليل":
وهكذا اكتشف المستوطنون، بعد مرور ثلاثة عقود من الزمن، أن "خليل" كان جاسوساً عليهم لصالح المقاومة في غزة. مثلما اكتشف أهل بيروت أن بائع الترمس، على زاوية الشارع، كان جاسوساً ضدهم لصالح الموساد. كثيرون قالوا إن السابع من أكتوبر لن يكون مثل ما قبله. فقد كنا مخترقين حتى العظم من قبل العدو، والآن أصبحنا نحن نخترق العدو حتى النخاع. وكما قال الشاعر: "وما فلسطين إن صحت عزائمنا ... بعيدة الدار تستعصي على الطلب".