يمكن وصف خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني ، في القاهرة ، بأنه رسالة تحذيرية شاملة لاسرائيل والغرب ، فهذا الملك العربي ، الذي ظهر على المسرح الدولي منذ عشرين عاما ، كوسيط مقتدر بين حضارتين ، وصفّقت لخطاباته طويلا كل نخب الغرب ، وعلى رأسها النخبة الأمريكية ( الكونغرس ) ، بات يشعر بما ظهر أنه يشعر به ، في خطابه في القاهرة ، الذي كان من الضروري ، لو امكن ، ان يترجم ترجمة فورية متقنة ، للعبرية والفرنسية والألمانية ، ولكل لغة أخرى سائدة في هذا العالم ، لعل الكلمات تصل لكل المعنيين وهي تفور من الصدر فورا.
يقول الملك : لا يمكننا غض النظر عن هذا الصراع باعتبار ان حله بعيد المنال ، وكأنه يستذكر خطاب الرئيس بايدن في بيت لحم ، العام الماضي ، الذي قال فيه إن حل الدولتين يبدو بعيد المنال ، وليس بوسعنا أن نفهم ما هو أقل من الاعتراض الملكي ، على ترك الصراع يجري كما يجري ، بدعوى ان الحل بعيد المنال ، بينما الحل جاهز فعلا على الطاولة منذ 15 عاما ، والمقصود هو الحل الذي تبنته اصلا الإدارة الامريكية وايدته بقية الأطراف وما كان يسمى الرباعية الدولية وممثلها طوني بلير ، انه الحل نفسه المطروح في مؤتمرات فاس وبيروت ومدريد ، انه حل الدولتين ، ومكان هاتين الدولتين ، كما جاء في خطاب الملك ، بين النهر والبحر، ولا داعي للاستمرار في المحاولات العبثية لاستخلاق أمكنة أخرى.
فالحل هو نفس الحل ، الذي يجري تجاهله والتحايل عليه من قبل اسرائيل منذ 75 عاما ، مع أنه لا شرعية قانونية لها بموجب القانون الدولي إلا بناء على ذلك الحل ، فدولة إسرائيل التي يعترف بها العالم ، تستند في مشروعية وجودها على قرار التقسيم ، الذي ينص على قيام دولتين في فلسطين ، فلسطين التي كان بعض زعماء اسرائيل يحملون جنسيتها رسميا في زمن الانتداب.
ومن المعروف ان قرار التقسيم عارضه عبر السنين الطويلة ، متطرفون من كلا الجانبين ، ولا يزالون ، مع فارق مهم ، وهو ان متطرفي اسرائيل تمكنوا من الوصول للسلطة والتحكم بها ، فكان ان حكمت اسرائيل شخصيات صهيونية متطرفة جدا ، بعضها لا يزال يخشى السفر الى الدول التي لديها قضاء مستقل.
ومرة بعد مرة ، كنا نجد أن ما لا يمكن حصره من مجريات هذا الصراع الطويل ، تعيد كل الاطراف الى نقطة الصفر أي الى الحرب التي قبلها حرب وبعدها حرب ، حتى ابتكر قائد عسكري اسرائيلي بارز ، مفهوما عسكريا جديدا يسميه استراتيجية الحملة بين الحروب ، ومرة بعد مرة نتأكد أن السادات لم يكن متأكدا حين وصف حرب اكتوبر انها اخر الحروب ، حتى بين مصر واسرائيل ، فقبل أشهر قليلة قرر جندي مصري واحد ، شن حرب فردية على الجبهة المصرية ، ستستمر لعدة ساعات وشاركت فيها قوات كبيرة ومروحيات حربية.
ومن مصر ، يوجه الملك كلامه لاسرائيل ، لعلها تدرك ، بل هو يقول بشكل مباشر ان على القيادة الاسرائيلية ان تدرك انه لا يوجد حل عسكري لمخاوفها الأمنية ، مضيفا ، بأن عليها أن تدرك أيضا وبشكل نهائي انه لا يمكن لدولة ان تزدهر ابدا اذا بنيت على اساس من الظلم ، وهذه حقيقة ازلية لم ينكرها احد عبر التاريخ ، وقد شرحتها الفلسفة العربية اكاديميا وكرستها بصورة نهائية منذ سبعة قرون ، في فصل بعنوان ( الظلم مؤذن بخراب العمران ) الذي لا يزال مع كتب عربية أخرى محل الدراسة المنهجية في جامعات كثيرة حول العالم.
لا شرح لخطاب الملك في القاهرة ، الا باعادة قراءته وربطه بخطابات ملكية سابقة ، وفهم علاقات الارتباط في بنيته بكل ما فيها من المعاني الظاهرة والكامنة ، التي نعتقد انه لا يعجز عن فهمها كل من يريد ان يفهم ، ونفترض ان قيادة اسرائيل تفهمها ، كما نعتقد ان لا مصلحة لشعب اسرائيل ولا لشعوب الغرب ، ان يستمروا باللامبالاة حيال مصائرهم ومستقبلات اجيالهم ، التي يبدو انها تحولت الى مادة للمضاربات الانتخابية ، التي يتورط فيها سياسيون تسمح لهم ضمائرهم ان يغامروا بمصائر شعوبهم ودولهم من اجل الفوز بالسلطة ، حتى بتنا نشهد انقسامات مخيفة في مجتمعات متقدمة ، بسبب شهوات السلطة والنفوذ ، وبشكل لم يعد يختلف كثيرا عما يجري في مجتمعات اقل تقدما ، يجري التلاعب بمصائرها لنفس السبب ، ويتذرع المتلاعبون بمصائر الناس بما لا يعقل من مبررات ، حتى راينا ما لا يمكن الاحاطة به ، من امثلة ، بات معها نيرون وهتلر وموسوليني ، ليسوا اسماء استثنائية في تاريخ الامم ، بل ان اسوأ ما نواجهه اليوم هو ان ما كان يمكن غض النظر عنه بسبب حدوثه في ازمنة كنا نظن انها مضت وانتهت ، اصبح يتكرر حدوثه حاليا بفظاعات اشنع وابشع ، حيث يجد مجرمو الحروب الجديدة تحت اوامرهم اسلحة متطورة جدا وشديدة التدمير ، وادوات حروب فكرية واعلامية خارقة لكل المسافات والعقول ، الى ان بات يقال في واشنطن اننا الان في مرحلة تصدع الحقيقة ، وهي مرحلة اصبحت فيه البديهيات محل تعريفات جديدة تشبه تعريفات الكتاب الاخضر.
ولذلك ، لم يكن جلالة الملك يقرأ اختياريا في صفحة من تاريخنا ، وهو يذكّر بقواعد الاشتباك في الإسلام ، فما بتنا نراه يستدعي التذكير بتلك القواعد الأخلاقية العظيمة ، ونتذكر في هذا الصدد ان الملك الحسين رحمه الله قال ذات يوم اننا بحاجة ان نتقدم نحو الإسلام لا ان نرجع اليه ، فالإسلام أمامنا لا خلفنا ، ولطالما اسرفنا نحن العرب بمدح الغرب بقولنا انهم مسلمون بدون اسلام ، غير ان ما يجري الآن وربما ما سيجري مستقبلا ، يضع البشرية كلها بغربها وشرقها ، أمام المساءلة ، حول كل ما تدعيه في ثقافاتها المختلفة ، وقد يضع الاقوياء خاصة امام مواجهة تشبه مواجهة القرصان الضعيف مع الاسكندر، حين واجهه بحقيقة المعاييرالجائرة ، التي تعتبر القرصان الكبير الإسكندر بطلا عظيما ، فيما تعتبر القرصان الضعيف قاطع طريق او بلغة اليوم ارهابيا.
لا يكفي المقال ، لاستكشاف كل ما جاء في الخطاب الملكي ، فهو خطاب غزير بالمعنى ويستدعي القراءة مرة بعد مرة ، خاصة من قبل الأطراف المعنية ، انه رسالة خارقة لكل الانحيازات البشرية المحكومة بشهوات الهيمنة والسيطرة ، وتسمو فوقها ، رسالة تستحق ان نفهمها نحن ايضا في الداخل الأردني والعربي ، بشكل يتناسب مع طبيعة هذا الصراع المركّبة.