وضع خطاب الملك عبدالله الثاني أمس في القاهرة العالم أمام مسؤوليته التاريخية إزاء ما يحدث في غزة من إعتداء على المدنيين، واستهداف كل مظهر من مظاهر الحياة وحصار مطبق على السكان مع صمت مطبق من قبل غالبية بلدان العالم، وعندما طالب الملك بإنفاذ القانون الدولي على الجميع وبنفس المستويات دون انتقائية أو تمييز على أساس العرق أو الدين، فإنه كان يشير إلى ما يحدث في غزة وأمكنة أخرى في العالم، كيف هب هذا العالم لحمايتها تحت عنوان حقوق الإنسان وحقوق المدنيين.
أمس، كان الملك يدافع ليس عن غزة فقط، بل عن كل الأمة وعن كل مظلوم في الأرض عندما وضع العالم أمام سؤال كبير وهو: هل حياة الفلسطينيين أقل أهمية من حياة الإسرائيليين؟، وهل حياتنا جميعا أقل أهمية من حياة الآخرين؟، لقد مثل الملك رأس الحربة في الدفاع عن فلسطين وقضيتها، مطالبا العالم بأنه إذا أراد إيقاف دوامة العنف في المنطقة، عليه العودة إلى مفاوضات سلام جادة تعطي الفلسطينيين حقوقهم الكاملة على أرضهم.
الموقف الملكي هذا يتماهى مع المطالب الفلسطينية التاريخية، كما يتماهى مع غاية الأمة وكل أحرار العالم بأن يروا الشعب الفلسطيني كبقية شعوب الأرض صاحب دولة على أرضه، لا أحد يخاصمه عليها، دون تهديد أو تهجير أو نزوح أو قتل.
لقد أثبت الاعتداء على غزة أن مجموع الأمة لا زال بخير ولا زال على فطرته الأولى في الالتحام حول قضايا الأمة، وأن بوصلته لا زالت فلسطين، وأنه على امتداد ما يقارب القرن من محاولات سلخ فلسطين من وجدان الأمة قد فشلت، كما أظهر هذا الاعتداء أن النظام العربي لا زالت فيه مساحات كبيرة تعبر عن وجدان الأمة، كما يفعل الملك عبدالله الثاني.
لقد أظهر الاعتداء على غزة أيضا أن الرأي العام العالمي لا زال فيه مساحة كبيرة من الضمير الحي، رافضا لكل أساليب العنصرية والتفريق بين البشر، وأن المسيرات الضخمة التي تشهدها معظم مدن الغرب رفضا لما يجري مؤشر على ذلك.
إن ما آلت إليه الأمور في فلسطين وخصوصا في غزة يعبر عن قناعة لدى الفلسطينيين أن معظم العالم ومؤسساته المعنية في الصراعات قد تخلت عنهم لصالح المشروع الصهيوني، وكل حديث عن الحل السلمي وقيام الدولة عبر أكثر من ثلاثة عقود ما هو إلا حرق للوقت، وتمكين للإسرائيلي من إتمام مشروعه، ولطالما كانت الأحداث الكبيرة سببا في إبراز خفايا المواقف، واكتشاف سوء النوايا، وكلما كان الحدث أكبر، كان تأثيره كبيرا، ولعل الحرب الدائرة في غزة وعموم فلسطين، أظهرت نفاق كثير من دول العالم التي تتغنى بحقوق الإنسان في العيش الآمن والكريم في انحيازها للمعتدي على حساب الضحية.
إن مشروع إسرائيل في غزة والتي تعمل على إنجازه بالدم والنار إذا ما استطاعت تنفيذه، سيحول المنطقة إلى بارود نار سينفجر من جديد بوجه الجميع، ساعتها لن يستطيع أحد الوقوف في وجه الإنفجار، لأن مقاومة الشعوب ليست موسمية، بل هي تيار وفكرة تتوارثهما الأجيال عبر العقود، وأن فكرة التحرير لأي شعب مغتصبة أرضه تمثل تيارا يعصف بكل هذه الأجيال، حتى تحصل على حقها بمشروعها الوطني.
إن الكيان الإسرائيلي يمارس اليوم ضد الفلسطينيين ممارسات تخلى عنها العالم منذ أكثر من قرن، حين يحاول تهجير الفلسطينيين وخلعهم من أرضهم مانعا عنهم في سبيل تحقيق ذلك أسباب الحياة من علاج وطعام وشراب وقطع للكهرباء والمياه، ولو استطاع لمنع عنهم الهواء، وهو بذلك يضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية والشرائع السماوية التي توافق عليها العالم.
إن الحكومة المتطرفة في تل أبيب لم تجر إسرائيل وحدها إلى الكارثة، بل جرت في تطرفها المنطقة والعالم إلى صدام كان يمكن أن يتجنبه الجميع لو نزلت على الرغبة الدولية بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم في أرضهم.
العالم اليوم أمام منعطف خطير في إثبات مصداقيته في الحديث عن العدالة بين البشر، فإما أن يثبت أنه صادق في ما يرفع من شعارات، ويستمع لصوت العقل الذي يمثله الملك عبدالله الثاني ويوقف الحرب والاعتداء على غزة، والعودة إلى فتح ملف عملية السلام عودة جادة على مبدأ حل الدولتين وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، أو يدخل في دوامة عنف لا يعرف نهايتها إلا الله تعالى، لأن المتربصين بأمن المنطقة والعالم كثر، وهم يتخذون في كثير من الأحيان القضية الفلسطينية عنوانا لعملهم في الظلام، لذلك، يجب الإسراع في إغلاق ملف القضية الفلسطينية على أسس العدل والمساواة وأول الخطوات إيقاف الإعتداء على غزة..