قالت لي ابنتي انها طالما تساءلت في سرّها متعجبة ومستغربة كيف أمكن للنكبة أن تحدث؟! كيف أمكن لجيل الأجداد أنه تركها تحدث؟!! كيف أمكن في القرن العشرين وتحت سمع وبصر العالم أن يتم تقتيل وتهجير شعب كامل وسلب ارضه وقراه ومدنه.؟! وتضيف انها الآن ترى الجواب أمامها .. ها هي المجزرة قائمة على قدم وساق تحت سمع وبصر الجميع، تنكيل وتهجير يتواصل تحت سمع وبصر العالم ويتم تسخير كل وسيلة للتمويه على الجريمة حتى انهاء المهمّة !!
مشروع النكبة الجديدة يجري على مسرح مكشوف بوجود وسائل الاعلام والاتصال الحديثة. الكاميرات تنقل الحدث لحظة بلحظة ومع ذلك وعبر نفس الوسائل يستمر التمويه والكذب الصفيق ولا يستحي قادة دول كبرى من تبني روايات ثبت كذبها والانحياز للجلاد ودعمه وشيطنة الضحية وممارسة ازدواجية معايير وانحياز فاجر تفوح منه رائحة العنصرية.
قطاع غزة الاكثر كثافة سكانية في العالم تم تحويله حرفيا الى حقل رماية لكل انواع الاسلحة. والقصف المتواصل من البر والبحر والجو ليس على معسكرات وثكنات بل على احياء سكنية وبنايات تردم فوق رؤوس العائلات بالتزامن مع منع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن السكان بهدف صريح ومعلن هو تهجيرهم خارج وطنهم. هذا هو مشروع النكبة الثاني.
النوايا السياسية الاستراتيجية قالها نتنياهو باعلان صريح أن الردّ على اللكمة التي كسرت خشم اسرائيل يوم 7 اكتوبر لن يكون كالسابق بل سيغيّر خارطة المنطقة ومستقبلها وتدخلت الولايات المتحدة مباشرة لدعم حرب إسرائيل الجديدة وردع كل طرف آخر قد يتدخل مثل حزب الله وايران.. لم يكن ممكنا ان نتخيل في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين أن يستمر دعم زعامات «العالم الحر» لمجزرة جارية ينقل الإعلام وقائعها ساعة بساعة وكذلك السكوت على قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عن شعب بأكمله.
الجزء الأول من مشروع النكبة جار على قدم وساق تحضيرا للجزء الثاني وهو التهجير واعادة احتلال اجزاء من القطاع وليس هناك قوة دولية تدين أو تعترض على الأوامر الاسرائيلية بإخلاء شمال القطاع بما في ذلك اخلاء المستشفيات ولا نذكر في التاريخ وفي وقت الحرب توجيه انذار للمستشفيات بالاخلاء وفيها المرضى والجرحى المقطعة اوصالهم واذ ترفض الطواقم الطبية الاخلاء يتم قصف احدها فعلا وتصل النذالة ببعض الزعماء الى تبني الكذبة الاسرائيلية الفاضحة بشأن المسؤولية عن القصف..
السؤال الأقسى والأمر الآن هو كيف تمرر تحت انوفنا مباشرة نكبة ثانية للشعب الفلسطيني؟!! وبالمناسبة اذا كانت النكبة الأولى قد وقعت على نطاق اوسع جغرافيا (ثلاثة ارباع فلسطين التاريخية) فالتهجير المستهدف به أكثر من مليوني فلسطيني من قطاع غزة يساوي بالارقام المطلقة ثلاثة اضعاف العدد الذي تم تهجيره في نكبة 1948.
مشروع التهجير خارج القطاع - وربما خارج الضفة بعد ذلك –يبدو غير قابل للتطبيق حاليا بسبب الموقف المصري والاردني القاطع لذلك تنتقل اسرائيل الى الخطة ب في الوقت الراهن وهي تهجير سكان شمال القطاع اي حوالي مليون ومائة الف الى جنوبه ويتم اعطاء ارقام متصاعدة لعدد النازحين جنوبا. والمرجح أن لا تبدأ «الحرب البرية» قبل تفريغ شمال القطاع تمهيدا لاعادة احتلاله وفصله عن الجنوب ثم بدء المقايضة من موقع المنتصر لوقف الحرب مقابل اطلاق سراح الاسرى ونزع سلاح حماس وربما ادخال قوات حفظ سلام الخ وسوف يتحمل الجميع ما عدا اسرائيل المسؤولية وقد لا تعود حماس مشكلة وهي متورطة بتكدس اكثر من مليوني فلسطيني في النصف الجنوبي من القطاع تحت رحمة القصف الاسرائلي ردا على اي طلقة قد تصدر من هناك بعد وقف اطلاق النار. كل القضية ستتحول الى مستوى آخر هي حل مشكلة التكدس السكاني بلا خدمات ولا عمل ولا دخل مع بنية تحتية مدمرة . وسوف تتسابق الجهات الدولية وتعقد مؤتمرات حول الموضوع ويصبح ملفهم مثل ملف لاجئي ال 48 وقد تسارع اسرائيل لاعلان ضم شمال القطاع واعلانه حدودها السياسية وترك الباقي لمصر والعرب والعالم يبحثون عن حلول «اقتصادية» للنكبة الجديدة .
اليوم يجب تسليط كل الضغوط واستخدام كل الأوراق الممكنة لوقف الحرب فورا ومنع مشروع التهجير واحتلال شمال غزة وهذا هو الاستخلاص الذي وصل له الاردن بعد جريمة مستشفى المعمداني وقاده الى الغاء القمة الرباعية. وهذا الاحتمال ليس مرجحا في ظل الموقف الغربي والأمريكي الحالي. ومهما يكن فإن افشال سيناريو نصف النكبة هذا يعتمد على امرين 1- اعاقة التهجير من الشمال الى الجنوب بأي ثمن واعتباره عربيا وفلسطينيا بمستوى التهجير خارج القطاع ورفض اي ترتيب للمساعدات لا يشمل كل القطاع، 2- اعاقة التوغل البري وصمود المقاومة وجعل الثمن باهظا جدا على كل شبر يتقدم فيه العدو. وحالما يظهر ان خطة الاجتياح البري في ورطة سيكون سقوط نتنياهو محتما وسيعود العالم كله امام حقيقة نهائية من هذه الحرب الدامية ان لا بديل عن العودة لأصل المشكلة وهي الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه غير القابل للتصرف بالحرية والكرامة والسيادة.
الدستور