الضحية النازفة والضحية القاتلة
محمد العامري
21-10-2023 01:27 PM
يقول براهام لنكولن: "تستطيع أنّ تخدع كل الناس بعض الوقت أو بعض الناس كل وقت ولكنك لا تستطيع أنّ تخدع كل الناس كل الوقت"
عالم الواقع المرير ينسرب في شرايين يومنا، اليوم الذي يبدأ ولا ينتهي بمشاهد القتل المسعور، حيث تسقط الديمقراطيات الغربية ومؤسساتها التي تنادي بحقوق الإنسان وصولا لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث يتقمص القاتل دور الضحية، الضحية واضحة بوضوح الدم المراق، لكنها تنتقل عبر وسائط الميديا كصورة مشوشة، فما يتحرك في شرايين الميديا الغربية محض أفعال تجاوزت المخيلة الإنسانية، فقد لحق العطب كل شيء وصار المقاوم إرهابي، خلافا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان1948، ومادته الأولى تنص صراحة على "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق"، ثم جاءت اتفاقيات جنيف الأربع، بعد لائحة لاهاي، لتؤكد مشروعية مقاومة المحتل، واعتبار الثوار الوطنيين كالمقاتلين في الجيوش النظامية.
هو مجتمع العولمة، الذي أفسد كينونة الإنسان وأراد له أن يكون نموذجا مؤطرا ومتشابها دون الأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية والدينية، مجتمعات تحكمها القوة بعيدا عن الاخلاق والمواثيق الدولية، فما نشاهده الآن هو سقوط مروع لحضارة الإنسان وتجلياتها في حقه ووجوده الكريم، فقد أطلقت قوة الآلة العسكرية جغرافيا جديدة للخراب، وساهمت في انتاج الأصولية والتزمت في التعامل مع الآخر الجلاّد، فنحن أمام نتائج مروعة منها القتل والقمع والفقر والمرض، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته ويتحوّل فيه المجتمع إلى مجموعة من المسوخ المتناحرة، فقد انتهت اليوتوبيا لتنوب عنها ديستوبيا العصر الجديد، كنتيجة مؤكدة للحكومات الشمولية والانحطاط رغم تقدم تقانة الرفاهية.
استطاعت الصهيونية أن تنتج مفاهيم الضحية متكئة على المفهوم الجمعي للهولوكوست، وانجزت استمرارية عجيبة في ادبياتهم السياسية التي شكلت مسارا غائرا في العقل الجمعي للصهاينة، بل تجاوز ذلك إلى ترحيل الهلوكوست للعالم ليصبح محط اعتذار دائم لهم، لكن الضحية اكتسبت مسارا مزدوجا، عبر تسويق الضحية القاتلة، الضحية التي تمارس عقدتها في الانتقام من الشعب الفلسطيني، تُعَدُّ "عقدة الضحية" سمة شخصية لهؤلاء الذين يعتقدون أنهم دائما ضحايا الأفعال الضارة من قِبَل الآخرين، حتى عندما يُعلَموا بالأدلة التي تُشير إلى عكس ذلك" حيث يستمد دور الضحية لدى الصهيونية الكثير من مضامين الذاكرة الجمعية لليهودية، وخاصة المحرقة النازية، فأصبحت سياقا اصطلاحيا يدخل في مفاهيم الدراسات المختصة في الصراعات السياسية.
تتغلغل هوية الضحية اليوم في مناحي الحياة للعدو الصهيوني، وخاصة الفنون والإعلام، بكونها تحمل رمزية ترويجية لهم، وتوفر عقلية الضحية سيلا من التفسيرات المتعلقة بالصراع بينهم وبين الضحية الحقيقية، في مقابل كل ذلك نرى إلى سردية الضحية العربية عامة والفلسطينية بخاصة أنها محاصرة ومحظورة في أروقة القرار الدولي، كمن يريد أن يصدق طرفا واحدا فقط، فما حدث في قصف مستشفى المعمدانية صورة حيّة عن تمرد القاتل بوصفه ضحية، وقام بنفي الضحية إلى مصاف الإرهابي، فلم يستطع الإعلام العربي أن يقدم صورة واضحة عن القربان الفلسطيني باستثناء رد الصورة إلى محليتها، لم تخرج من سياقات الحناجر التي تدرك حقيقة الظلم، فقد انحرفت عين الأرض عن صورة الدم الفلسطيني لتتوجه نحو القاتل بوصفه ضحية.
فنحن الآن في خضم الماكينة الإعلامية المضللة التي تعبث بالمحتوى وتوجيهه بطريقة منهجية لخدمة أهداف غير قانونية ولا إنسانية، وهكذا هو التضليل الذي يستهدف الحصول على نتائج متعارضة مع الحقيقة، وتكوين واقع محدد في ذهن المتلقي، وربما يؤرخ الكثير من المنظرين لذلك التضليل بوقائع معركة "النورماندي" في الحرب العالمية الثانية التي تم فيها دس معلومات محددة غير واقعية اتجهت بالحرب لخدمة الحلفاء في النهاية، فصناعة المصطلحات والتركيز على كلمات محددة وتكرارها واحدة من استهداف المتلقي للوصول إلى تصديق زائف، تماما كما فعلت الآلة الصهيونية الإعلامية في مسألة قصف مستشفى المعمدانية، وما نواجهه الآن هو محتل مبني على عقيدة توراتية، وتشكل هذه الدولة الفرادة في اعتمادها الدين لبناء المجتمع، فأصبحت المواجهة قائمة اليوم او غدا، وأولى أدوات المواجهة البعيدة هو انتاج مصطلح يحمل في ثناياه سياقا تربويا فاعلا بعنوان “معاداة العرب" كعنوان مقترح لإيجاد معادلة فاعلة بما يسمى معاداة السامية الذي التصق بهم. وتفنيد مفهوم الضحية المضلل الذي يتحرك بسرعة هائلة في العالم، وكان من أخطر نتائجه التأييد الدولي للقاتل ولوم الضحية الحقيقية، وتبرير حروب الاحتلال ضد العرب جميعا، والفلسطينيين بوجه خاص، وسبق وان حذرت دايان إينس، الفيلسوفة الأميركية، من أنّ عقلية الضحية "قادرة على ارتكاب أي درجة من العنف لا يُأبه لها أبدا".
فعقلية الضحية هو أحد الأدوار التي يلعبها الافراد والمؤسسات الكبرى وخير مثال الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، والضحية تمتلك مهارة عالية في استعطاف الآخرين عبر عبارات ومفردات مزيفة تقترب من التصديق عبر تكرارها وحشوها في ذهن المتلقي، ويبدو ان الإنسان يرغب في تصديق الوهم والكذب ويشير إلى ذلك فريريك نيتشه بقوله: "لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأن قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس، الناس تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام، منذ القدم والبشر لا تعاقب إلاّ من يقول الحقيقة، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل" .
وبكل تأكيد لن تتوقف الضحية عن الشكوى والأنين من صعوبة وقسوة هذه الحياة.
ولكن أية ضحية، حقيقة الضحية أم القاتل الذي تقمص دور الضحية؟.